عبدالرؤوف توتي بن حمزة
الثقافة فضاء مترامي الأطراف، يلمع بجمالٍ وبهاء في وجه، ويكابد في الوجه الآخر صراعاتٍ وخيبات. إنها كوكب يدور في مدارين متقابلين: مدار الصفاء والعطاء، ومدار الاحتكاك والخذلان، وفي هذا الأفق المعلّق بين الحلم والواقع، يشقّ الأديب والإعلامي علي فايع الألمعي مساره بخطى واثقة، مسنوداً بشغفٍ لا يخبو وإيمانٍ عميق برسالة الكلمة. يأتي كتابه «فتنة الثقافة» ليكون مرآة صافية، تعكس ملامح المشهد الثقافي بوجهيه: وجهٍ مشرق يغمره الحب والعمل، وآخر قاتم يلوّنه التهميش وصعوبة الطريق.
الألمعي مولع بالسرد التوثيقي، يتصف بنهم ويزيح الغبار عن مساحاتٍ طالما غيّبتها الضوضاء، ليعيد إلى القارئ السؤال الأزلي: هل الثقافة خلاصٌ للروح وبهجةٌ للعمر، أم أنها فتنة آسرة تُبهر صاحبها ثم تتركه في مفترقٍ حائر بين نشوة الانتصار ومرارة الانكسار؟
منذ الصفحات الأولى، يتبدّى أن الشغف هو المحرّك الأصيل لمسيرة الألمعي. لم يولع بالأدب طفلاً كما فعل كثيرون، لكنه تعرّف إلى عشق الكلمة في المرحلة الثانوية، حيث بزغ تميّزه في العربية. ثم جاء لقاؤه بأستاذه إبراهيم محمد شحبي ليمثّل لحظة انعطاف مفصلية، فتحت له أبواب القراءة والكتابة والنقد.
غاص في العمل الصحفي والثقافي، من أعمدة «الوطن» إلى زوايا «اليمامة» و«عكاظ». أطلق المبادرات في المدارس والمنتديات والمجالس الثقافية، من منتدى العمرة إلى مجلس ألمع الثقافي، ومن مغامرات موسكو إلى جماعة «حرف» في أبها. وفي كل مبادرة، كان الألمعي يقدّم الثقافة كفعل حي يتشارك فيه الناس، وينبض بالحوار والتجديد.
الطريق لم يكن سهلاً، اصطدم الألمعي بما أسماه «الوجه القبيح» للمثقف: تحزّبات، تهميش، واستعداءات علنية عبر منصات التواصل، عايش تجارب قاسية، مثل استدعاء مجلس ألمع الثقافي من قبل المحافظة، أو التجاهل الصريح من مؤسسات ثقافية كان جزءاً من نشاطها. هذه الصدمات لم تكسر عزيمته، لكنها كشفت جوهر الفتنة الثقافية: أن الثقافة عشق يستنزف، وامتحان يفضح.
رافق العمل الثقافي عند الألمعي حضور إعلامي حيوي، في «الشرق» و«اليمامة» و«عكاظ»، لم يكن هدفه الكتابة الصحفية وحدها، بل جعل الإعلام نافذة تخدم الثقافة وتوثّق نبضها. أجرى حوارات مع أدباء من مختلف الأجيال، جمع بعضها في كتب، وأبرز أسماء ظلت بعيدة عن الأضواء. كان اختياره أن يضيء الهوامش قبل المتون، والمغمورين قبل المعروفين.
يختم الألمعي تجربته باعتراف صريح: أن الثقافة امتحان يومي للصدق والإخلاص، وأن المثقف مدعوّ لأن يعمل بصمت، وأن يرضى أحياناً بالغياب عن المشهد أو بالإقصاء، ومع ذلك، فتنة الثقافة بما فيها من ألم ولذة، لا تسمح له بالتخلي عن الحلم.
إن قيمة كتاب «فتنة الثقافة» تكمن في كونه شهادة على مرحلة كاملة من المشهد الثقافي السعودي، ولا سيما في عسير. يوثّق مبادرات وملتقيات ومجالس، ويضع أمام الأجيال القادمة صورة صادقة بكل ما فيها من بهجة وحسرة، من شغف وخذلان.
ولد في رجال ألمع عام 1971، ومنذئذٍ رسم لنفسه مساراً مغايراً. ناقد، قاص، وصحفي، نشر في كبريات الصحف السعودية، وأثرى المشهد بمجموعات قصصية مثل «ظل الحقيقة» و«وجوه يسترها العري»، وبأعمال نقدية منها «انحراف المعنى… انحراف الفهم». كما ترك بصمته في الحوارات الثقافية («مطاردات لذيذة») وفي توثيق الذاكرة الأدبية («نبش في الذاكرة»). إلى جانب ذلك، أشرف على مجلات ونشرات متخصّصة، من «من موسكو» إلى «صوب».
إنها مسيرة تتجاوز حدود الإنتاج الفردي، لتصير فعلاً جماعياً نابضاً بالعطاء، جعل من علي فايع الألمعي أحد أبرز الوجوه الثقافية في المملكة والعالم العربي.
«فتنة الثقافة» تماثل المذكّرات الذاتية، وتبرز إلى مستوى كتاباً للتأريخ الثقافي، يكشف عن حقيقة جوهرية: أن الثقافة، بكل فتنها وتناقضاتها، تظل قادرة على أن تمنح الإنسان قيمة، وأن تخلّف في وجدانه صدى يتردّد كلما همدت الأصوات.
** **
أكاديمي - الهند