شوقية بنت محمد الأنصاري
ما إن حطّت محطة رحلتي بديوانية القلم الذهبي، لأُفتَن بهندسة المكان وتراثياته، ومنابرها من نور الأدب استضاءت، وجغرافية موقعها من حي السفارات تمركزت وبالثقافات تمازجت، فشرّعت أبوابها ونوافذها في رسالة للاحتفاء والتمكين لمن نجح في صناعة الأثر، وهندس بالآداب والفنون تنمية جمالية البشر، لنقرأ من هذه الحاضنة (ديوانية القلم الذهبي) تطلعات وأهداف محققة للرؤية، ومؤكدة لدورها في القيادة والتنمية والريادة، بشراكة تضمن استدامة التمازج الرابح من التعليم للثقافة للترفيه، لنجد في التفاتة معالي المستشار (تركي آل الشيخ) رئيس هيئة الترفيه بتخصيص الديوانية لتكون مصدرا ملهما في محتواها القيّم، لبرامج وأهداف المؤسسات الحكومية، وهذا هو برهان التكاملية للمشهد الثقافي الإنساني والاقتصادي والحضارة العصرية، حيث تحقّقت أجمل صورها بعد جائزتها العريقة (القلم الذهبي) للأدب الأكثر تأثيرا وتحويلها لأفلام سينمائية، لنجد من لغة التمكين المتفردة ما تجاوز إبداعات الكبار حين حلّ الطفل الأديب القارئ، والمسرحي الفنان، والمبتكر المبرمج، والشاعر المنشد، والخطيب الإعلامي، ضيفا متوهجا له بصمة حضور في الديوانية، والاحتفاء بمواهبه وتجاربه الابداعية، وهذا هو جوهر التحضر بين الأمم، لكون الطفولة رمزية دائمة باقية للصفاء والطهر والشغف للعطاء، فمن حاضنات تأسيس الطفولة الأولى تُغرس بذور الخيال والحوار بجودة تفهم واتصال، لنقرأ من هذه اللفتة المؤسسية الحكومية الوطنية فلسفة جمالية تجاوزت ما فسّره (كانط) بقوله: «اللعب الحر للخيال والعقل» لتتراقص دموع الحاضرين لأمسية (ديوانية القلم الذهبي) -أقيمت الأربعاء الماضي باستضافة أكثر من عشرة أطفال ويافعين برفقة أسرهم- في مشهد مسرحي وبلغة سرد طفولية مزجت المعرفة بالخبرة بالمهارة، وتفلسفت بمنطق يمتلك الجرأة والجدارة، وتحاورت مع الفئات بثقة تواصلية جماهيرية مجوّدة العبارة، فتقرأ من عيون الحاضرين الانبهار والاندهاش والفخر والحماسة، ونؤمن ونزداد إيمانا بالدور المحوري للمؤسسات الثقافية والأدبية والترفيهية حين سخرت سلطتها الفلسفية الواعية، لتحويل هذا الجمال الطفولي، والحرية الإبداعية من طاقة محدودة لآفاق منجزة ريادية، لامست حاجات جيل الرؤية السعودية من مكتبات عامة ومتنقلة، لمسارح نجومية الطفل، لمراكز الفنون والبرمجة، لأندية ترفيهية وألعاب الكترونية، ومرتكزاتها الحوارية الناعمة، والتواصية الجاذبة، فتجلّت من ديوانية القلم الذهبي ما وصفه (الفارابي) بـ(المدينة الفاضلة) حيث صلاح الفرد مرتبط بصلاح الجماعة وتنظيمها، ووصفها أمير القدوة (خالد الفيصل) بمقولته الشهيرة (تنمية الانسان والنهضة بالأوطان).
ومن زاوية تأملية نقدية فقد رسم مشهد حضور الأطفال النجباء للديوانية، وتصدرهم الجلسة الحوارية، بتدفق للمعاني المولودة في آفاق جديدة، أتقنوا وصف ما يلامس حاجاتهم، وسكبوا بمنطق فلسفي ما تجاوز نظريات التلقي لما بعد القراءة، وقد أشار عالم البلاغيين (عبد القاهر الجرجاني) لهذه الظاهرة في جل نظرية النظم، وكيف أن الجمال ليس في المفردة وحدها بل في العلاقات التي تنسج بينها. لنقرأ من لغة الطفل المنغمس في الموهبة، كيف أزهرت مهاراته من شبكات أسرية ومجتمعية أتقنت دور الرعاية، وتفاعلت مع إبداعه بصدق الاحتواء والعناية، ما زالت تنشد شعرا خلّد هذه المشاهد، كقول أحمد شوقي:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ
فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
وفي هذا البيت اختصار لفلسفة التربية الثقافية: فالمؤسسات لا تُعنى بالمهارة الفنية وحدها، بل ببناء الضمير الأخلاقي والخيالي للطفل. ومن قبل شوقي تغنى المتنبي بالهمة والشغف للعلم فقال:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بمـا دونَ النجومِ
لنجعل من رسالة المتنبي دعوة للمؤسسات أن تستديم في غرس همة الأطفال، فطموح إبداعهم بلا سقف، وأن تفتح للمهتمين بالطفل فضاءات التجريب والصناعة والتحوّل في عصر تتدفق فيه المعارف، ويستمطر فيه الحاضر عراقة التاريخ والإرث والتراث على أرض المسارح، وتتفلسف الفنون بالصوت العازف، وتنحاز اللغة لنص به من تشكلات المزج بين الحاضر والماضي ما يمحو المخاوف، نص أنتجته الحاضنة الثقافية المنغمسة في نشاط بشري منوع بين أدب وفنون ورقصات وموضات جديدة وقديمة وألعاب وفيديو ومهرجانات ومسلسلات وأفلام وتلفزيون وسينما وإعلانات وصحافة وفن شعبي وفولكلور تراثي وشؤون تجارية وتسويق وإشاعة، وغيرها، مما دفع بحراك النهضة المعرفية والنقدية والاقتصادية أن يتطور ليواكب هذا التدفق الثقافي الممزوج بعدة أنساق فلسفية من القضايا والفرضيات والنظريات، وأنساق لغوية لا تعزل الاستقراء والاستغلال الذاتي بل تقرنه بطبيعة الانفتاح على عدة علاقات وهويّات متنوعة الحدود، وأنساق اجتماعية تعد نظاما ثابتا ذاتي التنظيم من جهة، ومتغير يتكيف مع الظروف الجديدة من جهة أخرى، فيتغيّر رغم محافظته، ليتكيّف ويستديم مع المستجدات الاجتماعية والثقافية التي تتوالد بها الأضواء الترفيهية وفعالياتها مغمورة بعلامات سيميائية تحتضن معالم (النسق السميوطيقي).
هذا النموذج من التمكين عشتُ تجربته في معسكر (ديوان الابتكار 2021) بتنظيم من مؤسسة (مسك) حيث كان برفقتي مؤلفات الأطفال القصصية الأدبية، لأرسم بالمشاركة لحظة تنافسية تجريبية تنقل مشروعي التطوعي (مملكة التأليف) نحو الريادة والتمكين، بنقل مؤلفات النجباء الصغار الأدباء لمشاهد سينمائية تعرض على شاشات (بلويفارد موسم الرياض الترفيهي) ونؤسّس لثقافة جديدة ما بعد أدب الطفل ألا وهي: (الطفل الريادي) مرحلة من التدريب وصقل مهارة الطفل لما بعد القراءة والتأليف، لينتقل إلى التصميم والبرمجة والسيناريو المدمج بتقنيات السينما والذكاء الاصطناعي، وهذا ما نطمح له في ظل شراكة استثنائية بين منظومة تنمية الطفل الثلاثية (التعليم الثقافة الترفيه) وكأن (الغذامي) يصف هذا المشهد للأطفال المبدعين القارئين، والديوانية كحاضنة كتابية ونقدية، بتفسير نقدي بارع: «القارئ الصحيح لم يعد يقبل هذا الدور الآلي لنفسه؛ فهو ليس مجرد متلق ولكنه يمثل حصيلة ثقافية واجتماعية ونفسية تتلاقى مع كاتب هو مثلها في مزاج تكوينه الحضاري الشمولي، والنص هو الملتقى لهاتين الثقافتين، والكاتب صاغ النص حسب معجمه الألسني، وكل كلمة من هذا المعجم تحمل معها تاريخا مديدا ومتنوعا»
ختاما إن المؤسسات الثقافية والأدبية ليست ترفاً اجتماعياً، بل ضرورة حضارية، فهي تصنع جيلاً لا يكتفي بالاستهلاك، بل يضيف إلى العالم قصصه وألوانه وصوته المبدع المختلف، في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية، ليصبح للمؤسسات دورها المنغمس بالوعي والجميل والأثر، وجاهزا لمنح الأطفال فضاءً يوازن بين الإبداع الحر والتفكير النقدي، وبين الأصالة في الابتكار، والوسطية مع الانفتاح.