د.محمد الدبيسي
أ: الدَّواعِي والارْهاصَاتُ:
قبلَ (اثنينِ وتسعين) عامًا في المدينةِ المنورةِ، وفي بنايةٍ عريقةٍ صُمِّمت على الطِّرازِ المعماري المدني، في حيِّ (السَّاحةِ)، مقابلَ باب الرَّحمةِ- أحد أبواب المسجد النبوي الشريف، من جهته الغربية- اتخذَ عبدُالقدوسِ الأنصاريُّ إحدى حُجُراتِ تلك البناية، لتكون مقرًا لمجلة المنهل، وفي ذلك المكانِ المجلَّلِ بقداسةِ الجوارِ؛ صدَرَ العدَدُ الأوَّلُ من المنهل، في ذي الحجَّة/ 1355ه= فبراير/1937م، وكان قد مضى على صُدورِ أوَّلَ كتابٍ في الأدبِ السُّعودي: (أدبُ الحجاز) ، عقدٌ من الزمن، ولم يكن ثمَّة مجلةٌ أدبيةٌ وطنيةٌ في البلاد السعودية، أو في الجزيرة العربية؛ حتى صدورِ المنهل، التي لم تستَّمر خالصةً للأدب، كما كانت في أصلِ تأسيسها ودواعيه، أو مقصورةً على أجناسِه وألوانِه، كما هو شأنها في أعدادِها الأُولى، عندما عُنيتْ بالأدبَ، ولاسيما المقالةَ الأدبيَّة بأغراضها المتعدِّدَة، والشِّعر، فالقصَّةُ في بداياتها، بل اتَّسَعَ أُفُقُها لتكون أيضًا؛ مجلةً ثقافيةً بالمعنى المحقِّقِ للوصفِ، مستوفيةً أبعادَ المصطلح في طروحٍ معرفيةٍ دينيةٍ وتاريخيةٍ وجغرافيةٍ وآثاريةٍ واقتصاديةٍ، ومواكبةً نهضةَ الدولة الفتيَّة. إذ سبقَ إنشاءُ المجلةِ بـ(أربعة) أعوامٍ، في عام 1351ه=1932م تحديدًا؛ صُدورَ مرسومٍ ملكيٍّ، تضمَّنَ إعلان توحيد البلاد، وقضى بتسميتها: المملكة العربية السعودية، وكان لهذه المواكبةُ أثرها في نهج المنهل، وفي مضامينها، وفي المسلَكِ الذي التزمتُهُ فيما بعد، عندما خصَّصَتْ صفحاتٍ محدَّدَةٍ لأخبارِ البلاد وشؤونها، وأخبار قيادتها، وأنشطتهم الإدارية الداخلية، والخارجية، ومسؤولياتهم الوطنية، وما إلى ذلك من اهتماماتٍ سيلي الحديث عنها، في مباحثِ هذا الكتاب.
وأمَّا هدفُ الأديبِ الأنصاريِّ، من إنشاءِ المجلة؛ فقد انطلقَ من حرصه على إيجادِ صوتٍ للأدبِ الوطنيِّ في أجناسِه الرئيسةِ والشَّائعةِ آنذاك. وكان يرى أهليَّتَه لذلك، ويرى في نفسهِ الشَّخصَ المُهيأَ لذلك الدَّور، واستيقنَ أنَّ طموحَهُ يفوقُ المعطياتِ المتوافرة لديه، وفي مجتمعه: المدينة المنورة، قُبيلَ منتصف القرن (الرابع عشر) الهجري، يقول: «يتطلَّبُ إنشاءُ الصحيفةِ أو المجلةِ، وجودُ مطابع َكبيرةً تصدرُ منها، وليس هنا مطابعُ من هذا النَّوعِ، وليس هنا أيضًا ما يملأُ فراغَها وأعمدتَها، لو قُدِّر لها الانشاءُ حينئذٍ؛ الجيوبُ فارغةٌ، والأدمغةُ لمَّا تمتلئَ بالأدب، والمجتمعُ لمَّا يتقبَّل إنشاء صُحُفٍ ومجلَّاتٍ، والقُرَّاء قِلَّةٌ، والمدارسُ قِلَّةٌ، والشبابُ قِلَّةٌ كنقطةٍ بيضاءَ في جِلدٍ أسود..، إنَّ سنوات 1347ه، 1348ه، 1349ه؛ من سنواتِ إرهاصٍ وتمهيد، وليس تكوين وإيجاد صحافة»، فهذا الحديثُ المفعمُ بالإحباط، يستبطنُ حماسًا توفَّرتْ بواعثُهُ في نفْسِ الأنصاريِّ، وانعدمتْ مقوماتُ تحقُّقِه بحسبه أيضًاّ؛ حماسٌ يختلجُ في نَفْسِ أديبٍ مدنيٍّ شابٍّ، كان آنذاك في (الثامنةِ والعشرين) من عمره، مُحاطًا بعوائقَ بنيويةٍ موضوعيةٍ آنيةٍ، كما رآها هو.
عوائقُ فنيَّةٌ: (ليس هنا مطابع)، وماليةٌ: (الجيوبُ فارغةٌ)، وثقافيةٌ: (الأدمغةُ لمَّا تمتلئَ بالأدبِ، والقُرَّاءُ قِلَّةٌ، والمدارسُ قِلَّةٌ)، وثقافيةٌ اجتماعيةٌ: (المجتمعُ لمَّا يتقبَّل بعد إنشاء صُحُفٍ ومجلات)؛ وباستقراءِ أحوالِ الحياةِ الثقافيةِ العامةِ في المدينة المنورةِ في تلك المدة- كما سيأتي- قد لا يَسعُنا التَّسليمَ بموضوعيةِ جُلِّ هذه العوائقِ وواقعِيَّتها-عدا الماليّ منها- التي سَاقَها الصَّحَفيُّ (الرَّائد)، الذي لم يكن يومها رائدًا..، ولم يكن غير شابٍ طموحٍ كَلِفٍ بالمعرفةِ، مخلِصٍ لها. وهو هنا؛ يحيطُ مقدِّماتِ صنيعه العظيم بحقٍّ: إنشاء المنهل؛ بهذه العقباتِ والمعوقاتِ، لكي يُلقي على ذلك الصَّنيعِ هالةً نضاليةً، ويجعل منه قِصَّةَ كفاحٍ، كان هو بطلها.
ومن ثَمَّ، لم تمنعه تلك العوائقُ التي تحدَّثَ عنها، فعمل على تجاوزها بإيمانٍ بالهدف، ويقينٍ بقدرته على بلوغه، بمؤازرةِ من شيوخه وأصدقائه المدنيين، يقول: «وأذكرُ أنَّنا قلَّبْنَا الأمرَ على شتَّى أوضاعه، في سنتي 1348ه-1349ه؛ حيالَ الكيفيَّة التي نتمكَّنُ بها من إنشاءِ صحيفةٍ أو مجلةٍ، مهما تكن ضئيلةَ القدرِ والحجمِ والموضوعات، وقد تذاكرنا وتداولنا البحوثَ في هذا الموضوع، الذي كنَّا نراهُ حيويًا بالنسبةِ للأدبِ الحديثِ النَّاشئِ على أيدينا في المدينة المنورة، حتى لا ينفلتَ الزِّمامُ من أيدينا، وحتى نستطيعَ تطويره وإحياءه وإنماءه»، فها هو المجتمع الثقافي الذي تتوجَّهُ إليه المجلة؛ يساندُ التفكير في إنشائها، ويُباحثُ أدباؤُهُ صاحبَها في شؤونها، مما ينفي وجود (موانعَ اجتماعيةٍ) تحولُ دونَ إنشاءِ المجلة. ثُمَّ إنَّ المجتمعَ بعمومه في ذلك الحين، لم يكن من همِّهِ ملاحظة من يعتزم إصدار (مجلةٍ أدبيةٍ) من عدمه، ولم يكن بعيدًا زمنيًا عن حِقبةٍ كان في المدينة إبَّانها؛ صُحُفٌ سيَّارةٌ، أيًّا كان مستواها وأهدافها.
وكان الأنصاريُّ بين ظهراني ذلك المجتمع، يعملُ مُراسلًا لجريدةِ السياسةِ الأسبوعيةِ المصريةِ، وكاتبًا في مجلة الرسالة الشهيرة، ومجلة الشرق الأدنى المصرية، وقبلَهُ كان العالم المدني الجليل الشيخ محمود شويل (ت1372ه=1953م)، مراسلًا لمجلة المُقتَطَف، وأحد كُتَّابها المرموقين، وكاتبًا في صُحُفٍ أخرى غيرها، في مصر ولبنان، وأحد مؤسِّسِي صحيفة المدينة المنورة (الأُولى)، التي صدرت عام 1327ه=1909م، غير أنَّ الأمرَ الذي كان الأنصاريُّ يطمحُ إليه، ليس التباحثَ في أمرِ إنشاءِ مجلةٍ أدبيةٍ ينشرُ ورفاقُهُ فيها إنتاجَهم، ويَعرِضونَ آراءَهم، أو يُطالعونَ فيها أخبارَ الأدبِ وقضاياه فحَسْب، بل كان أيضًا يسعى لتسنُّمِ الريادةِ في تأسيسِ ثقافةِ المجلات الأدبية في المدينة المنورة خاصةً، وفي المملكة عامةً، وجَعْل مجلته تلك؛ معرضًا لأدباء بلاده، وللأدباءِ من كُلِّ الأصقاع، وكان الأنصاريُّ ابن بَجْدَتِها، السبَّاق إلى ذلك الفعلِ الرِّيادي، وإليه تُنْسَبُ مَكرُمةُ القيامِ به.
وقد ساوَرتِ الفِكرةُ ذاتُها قَبْلَه- كما روى هو بنفسه- صديقَه ونديمَه الحمِيم الشاعر عبيد مدني (ت 1396ه= 1973م)، وفاتحَهُ بها، يقول الأنصاريُّ:»وفي ذاتِ ليلةٍ، قال لي السيد عبيد مدني: إنَّه يُزمعُ إصدارَ مجلةٍ أدبيةٍ لرفعِ مستوى الأدبِ الحديثِ في البلاد، ويكون اسمُها (الفاتحة)، كانت الفكرةُ جميلةً، وقد أخذتْ مني كلَّ مأخذٍ، وشجَّعتُه على إصدارِ الفاتحةِ مِرارًا، ولم يكن الجوُّ مُهيأ لشيءٍ من ذلك، وشُغِلنا نحنُ الاثنينِ بمطالب الحياة».
فمع كُلِّ الموانعِ التي أسلَفَ الأنصاريُّ ذِكْرَها - التي كان باستطاعةِ صديقه عبيد مدني، تجاوز الماليَّ منها على أقلِّ تقدير-كانت فكرةُ إصدار مجلةٍ أدبيةٍ متداولةً بينهما، ورائجةً عند رِفاقِهما، وكان الأنصاريُّ مواظبًا على نشرِ مقالاتِه في المجلاتِ العربيةِ التي ذَكَرْناها، يقول: «ثم بدأ التفكيرُ يُساورُني في إصدارِ مجلةٍ أدبيةٍ تحملُ أفكارِي، وتنهضُ بالأَدبِ الحديثِ في هذه البِلاد عاليًا، وتعيدُ سِيرتَها الأُولى بين المكاناتِ السَّاميةِ في العَالَم؛ فرسمتُ الخُططَ، وفكرتُ في الاسمِ المناسبِ، فإذا هو المَنْهَل، وتقدَّمتُ إلى الحكومةِ بإصرارٍ؛ طالبًا مَنْحِي رخصةً رسميةً بإصدارِ المنهل، كان ذلك في عام 1349ه..، حتى صدرتَ الرُّخصةُ الرسميةُ لي بالإصدار، في أواخر عام 1355ه، أي بعد ستِّ سنواتٍ من طلبي الرُّخصةَ، فبادرتُ حالًا إلى إصدارِ أوَّلَ عددٍ في مطبعةِ المدينةِ، انجازًا للوعدِ وتحقيقًا للرغبةِ المُلِّحةِ، ولئلَّا يتوقَّف العزمُ أو تفتَرَ الهمَّةُ، أو تحدُثَ عوارضٌ وعقباتٌ..، وسِرتُ في طريقي المنشود».
فبجسارتِهِ، ومؤازرةِ شيوخِهِ ورِفاقِهِ، سارَ نحو تحقيقِ الفكرةِ والتَّمكينِ لها، والنهوضِ بمشروعِهِ، الذي كان يُعلِّق عليه آمالًا جِسَامًا، وأهدافًا ثقافيةً كُبرى، أوَّلُها كما ذَكَرَ آنفًا: (مجلةٌ تحمِلُ أفكارَه، وتنهضُ بالأدبِ الحديث). ولمَّا صَدَرَ العَددُ الأوَّلُ من المنهلِ، تأمَّلَهُ الأنصاريٌّ بشيءٍ من الخجلِ والوجَلِ، في ألَّا يُطاولَ طُموحَهُ، وألَّا يبلغَ أعطافَ آمالهِ العِظام، يقول: «إنَّ من أهمِّ ماتَصبُو إليهِ المنهلُ، أنْ تُوفَّقَ لتكونَ فاتحةَ عصرٍ جديدٍ ناضِرٍ زاهِرٍ في أدبنا الحجازيِّ الفتيِّ، فتعيدُ لهذه البلادِ المقدَّسةِ مكانتها الأدبيةِ الشَّامخةِ بين أقطارِ العُروبةِ، ليغتبطَ العَالمُ الحديثُ بقُسِّ الحجَازِ الحَديثِ وسَحْبَانِه، ويشدو بنَابِغَتهِ وحَسَّانه»، وهنا تتبيَّنُ مسألةَ تعلُّقَ الأنصاريِّ بالتُّراثِ الأدبيِّ، وتمحوره حوله، وتفضيله إياه؛ نموذجًا يُحتذى، ومثالًا يُلتزمْ، والنموذجُ القارُّ في وعيه، وفي لا وعيه، والذي ينهدُ إليه؛ يكمنُ في استعادة وهج الماضي: (قسُّ وسَحبَان، والنَّابغةُ وحسَّان) في سياق الحاضر، ولم يكن ما قاله إنشاءً احتفاليًا عابرًا، بل موقفٌ تعضِّدُهُ وتجلِّي إيمانه به، والتزامه حدوده؛ سياقاتٌ أخرى كما سيأتي. ولم يكن في الآنِ نفسه، رافضًا للأدبِ الحديث، أو متنكِّرًا له، بل أفسحَ له البابَ واسعًا في المنهلِ وصفحاتها، وكان نهجه التحريري في المنهل؛ متوازنًا رصينًا محافظًا، كما سيأتي بيانُهُ تفصيلًا في المباحثِ اللَّاحِقة.
واستمرتِ المجلةُ في طريقها الذي أرادَهُ لها، وحقَّقَ بواسِطتها طموحَهُ العظيم، في أنْ يُسجَّلَ باسمه صدور أولَ مجلةٍ أدبيةٍ وطنيةٍ في البلادِ السُّعوديةِ، وفي الجزيرة العربية، وبالتحديدِ في مَسقطِ رأسِهِ، ومَشهِد صِبَاهِ وشبابهِ، ومَهوى فُؤادِهِ: المدينة المنورة. وقد تحمَّلَ لأجلِها مالا يَقدرُ عليه كثيرون، أو يُحجمُونَ عنه رُضوخًا لسلطةِ المصَاعبِ والعقَباتِ، يقول: «ومن الجديرِ بالذِّكرِ أن أُميطَ اللثامَ عن سِرٍّ دفينِ، ذلك أنَّ العددَ الأوَّلَ من المنهل، صدَرَ وليس عندي من النقودِ سوى أربعينَ ريالًا سعوديًا، ثم استقرضتُ من صديقٍ بقيَّةَ القِيمةِ وسدَّدتُها للمطبعة، وجاءَ أوانُ العددِ الثاني، وليس في جَيبي من قِيمةِ إصدارِهِ درهمٌ واحدٌ. ولكنه صدَرَ، وصَدرَتْ بعده عشراتُ الأعداد»، ولم يكن لذلك أنْ يكونَ كذلك، لولا حِكمَةِ الأنصاريِّ، وطُولِ أنَاتِه، وعملهِ الدَّؤوبِ في أن يمكِّنَ لحلمِهِ، ويُجاوزَ به العوائق والعراقيل.
وقد عاصرَ الأنصاريُّ نشأةَ الدولة، وعمِلَ في مُقتبلِ حياتهِ في دواوينها الرَّفيعةِ، ورأَسَ تحريرَ صحيفتها الرسمية: أُمُ القُرى، وكان من الواردِ أن يكونَ له شَأنٌ أرفَعَ في المناصِبِ والوظائفِ التي تقلَّبَ فيها، أو أن يبلغَ شأوًا أكبر مما بلغَهُ في بعضها، أو أن ينخرطَ في غير ذلك من المناشط المُتاحةِ والمتيسِّرةِ في تلك المدة. ولكنه صَدَفَ عن ذلك، واختار العِلْمَ سبيلًا، والأدبَ حِرفَةً، واختارَ المنهل مشروع حياة، يُنشئُها بجهدِهِ وكِفاحِه، ويرعاها وينمِّيها، ويرقبُ امتدادَها وانتشارَها، ويحفلُ بنجاحِها، ويصرفُ عُمرَهُ الزَّاهرِ لحياتِها الزَّاهِية.
ولأنَّه لم يكن يَلوي على غير حِرفْةِ الأدب، فقد زهدَ في ما عداها، حتى امتلكتْ عليه حياتَهُ، وأفنى فيها فُصولَ عمرهِ البَهيج، (اثنين وخمسين) عامًا رئيسًا لتحرير المنهل، بل وصاحبُها، وكذا كان حرصُهُ على التماهي بها، والتَّوحد معها، وكأنَّه افترضَ نِدًّا أو مُنافسًا له في تملُّكِها، فكان في الأعدادِ الأوُلى يصفُ نفْسَهُ في ترويسة المجلة بـــ(منشئها)، وليس رئيس التحرير، إذ كان يرى في الوصفِ الأوَّلِ؛ معنىً أدقَ وأشملَ، وأقربَ إلى نَفْسهِ من الثاني.
وقد صدرتْ للأنصاريِّ (حُجةٌ شرعيةٌ) من محكمةِ المدينةِ المنورةِ، تقضي بالسَّماحِ له بإنشاءِ المجلة وتملُّكِها، بعد أن قَدَّمَ الحيثياتِ التي طلبَتها المحكمةُ، ومنها: (إحضار آثارِه العلميَّةِ المطبُوعةِ والمخطوطةِ)، وتعيينُ لجنةٍ رقابيةٍ مُكوَّنةٍ من شخصين، أوَّلُهُما: أَحدُ قُضاةُ المحكمة، (للأمورِ الدينية)، والآخرُ: أَحدُ وجهاءُ المدينةِ المنورة (للأمور السياسية)، وبكفَالةِ العالم المدني وشيخ القُرَّاء بالمدينة آنذاك السيد أحمد ياسين الخياري، وعدَّ عبدالقدوسُ تلك (الحُجَّةَ)؛ مأثرةً ومفخرةً وأوَّليَّةً للمنهل، وإلى ذلك، صارت المنهلُ ملكيَّتًهُ الخاصَّة في أصلها وكينونتها، وبهذا الفهمِ أدارَها ورَعاها، ونمَّى وجودَها، وأبْلَغَها ما بلغتَهُ من مكانةٍ، ثمَّ أورَثها بَنِيهِ من بعده. وليس ذلك إلا للمنهل.
ثم اعتادَ وصف: (رئيسُ تحريرها، وصاحبُها)، ثم (رئيسُ تحريرَها، ومنشؤها، وصاحبُها)، فالمنهلُ حلمَ حياتِهِ، وثمرتها العُظمَى الأثيرَةِ عنده، لا يفتر يؤكِّد أنَّها تخصُّهُ ملكيَّةً، وانفردَ بها خَلْقًا وإنشَاءً، وتملُّكًا، ويمنحه الشَّرعُ والقانونُ حقَّ توريثها لبَنِيهِ وحفَدتِه، وقد كان ذلك فيما بعد، عندما انطوتْ صفحةُ حياتِهِ، فورثها من بعده ابنه نبيه بن عبدالقدوس الأنصاري، فلمَّا قضى أجله؛ آلت إلى الحفيدِ زهير بن نبيه الأنصاري، الذي قضى نحبَهُ بُعيدَ توقُّفِ المجلة ببضْعِ سنين، عليهم جميعًا رحمة الله.
وفي السنوات الأُولى من صدورِها، لم يكن معه فريقٌ يقومُ على شؤون المنهلِ الفنية، والإدارية، إلا أحد أصدقائه المتقاعدين، وقد تحدَّثَ عن ذلك، بقوله: «هذه مجلةُ المنهلِ الشهريةِ التي أنشأها الشيخُ المتقاعدُ عبدالقدوس الأنصاري..، وكان مُنشؤها هو مصّحِّحَ جُزَازَاتِها: (بروفاتها)، وكاتبَ بعضَ مقالاتِها، وبعضَ قصائدِها، كان كُلَّ شيٍ تقريبًا في تحريرها وإخراجها، وكان يعاونه على أعمالِ الإدارةِ، صديقُهُ المتقاعدُ الثريُّ السيد هاشم نحاس»، فكان جذِلًا وفخورًا بقيامه بتلك الأدوارِ جميعُها، ويعتدُّ بذلك، بوصفه منشئ المجلة، مُسندًا لنفسه وحدَهُ مفخرةَ إنشائها، ومُنصِفًا من نفْسِهِ في نظرتِه لعَددِ المجلةِ الأوَّل، الذي كان فاتحةَ حُلمهِ، وأوَّلَ تباشيرِه، يقول: «صدَرَ أوَّلُ عدَدٍ منها ضَعيفًا مُهلْهلًا ركيكًا في كلِّ شيءٍ، اللهمَّ إلا في الرُّوحِ الطَّامحةِ، التي يتجنَّحُ بها كاتبُ هذه السطور، وقد سارتْ مجلةُ المنهلِ على الخُطةِ التي رسمَها لها مُنشؤها، منذ أولِ لحظةٍ حتى الآن»، ولم يكن العدَدُ الأوَّلُ بذلك (الضعف والرَّكاكة)، بل كان مُقدِّمةً مقبولةً، لمشروعٍ ثقافي، يخطو أوَّلَ خطواته، بكلِّ ما فيها من إرهاصاتِ بُلوغِ التَّمَام.
ولم تحلْ تلك (الرَّكاكةُ وذلك الضعفُ)؛ دون استمرارِ المنهلِ في المسارِ الذي أراده لها مؤسِّسُها، وتجاوزِ الضعفِ الذي قدَّرَ الأنصاريُّ أنَّه شابَ عدَدُها الأوَّل؛ بحُسنِ إعدادِ وتجويدِ ما سيليه، مُلتزمًا الهدفَ الذي رامهُ، أو (المبدأ الأساسي) كما وصفه، بقوله: «ولم تَحِدْ عن المبدأِ الأساسيِّ لها، وهو نشرُ العِلمِ والمعرفةِ في هذه البلاد، وإحياءُ التراثِ العربيِّ القُح بها، ومسايرةُ موكبَ النهضةِ فيها»، فـــــ(نشرُ العِلْمِ والمعرفةِ، وإحياءِ التُّراثِ، ومسايرةُ النهضة)؛ هي الركائزُ الرئيسةُ التي تحكُمُ المجلةَ وتوجزُ أهدافها، ومُنشؤُها شديد الحماسِ عميقه؛ لدورِ المجلةِ في خدمة هذه الركائزِ الثقافيةِ والحضاريةِ للوطنِ والأُمة، لا يحيدُ عنها، يقول: «وقد لاقتْ في سبيلِ الثَّباتِ على هذا المبدأ، شتَّى الصعوباتِ المعنويةِ والماديةِ، وقِيلَ عنها إنَّها جامدةٌ، وقِيلَ عنها إنَّها خاملةٌ، وقِيلَ عنها غير ذلك من الأقوالِ مِرارًا وتكرارًا»، إذ لم يكن ثمة رضًا جمْعيًّا مطلقًا عن المجلة، ومسارها الذي التزمته، بصورةٍ عامةٍ، من قِبَلِ نفرٍ قليلٍ من مثقفي تلك الحقبة، وبخاصةٍ في السنواتِ الأُولى من صدورها، وهو أمرٌ أدركهُ الأنصاريُّ، ووعى أسبابه آنذاك، دون أن يُعيقَه ذلك عن السَّير في طريق استمرار المنهل، وتطوِّيرِها. ولذلك ثمَّنَ موقفَ صديقه أحمد رضا حوحو الأديب الجزائري المدني (ت 1375ه=1956م)، الذي شجَّعَه وسانَدَه، إبان بدايات صدور المنهل، وقال: «إنَّ له فضلا يُذكرُ ليُشكرَ في تشجيع المنهل، وتثبيتِ دعائمِهِ، حين كان المشجِّعونَ قِلَّةً، والمثبِّطونَ كثرةً». وكان من المثبِّطينَ، والقَالِينَ، والقائِلينَ: (إنَّهاجامدةٌ، وإنَّها خاملةٌ)..؛ من أصبحَ فيما بعدُ من زمرة ِكُتَّابها، ومن متابعيها، حين استيقَنَ نجاحَها، واستوثقَ من انتشارها، وتحقُّق أثرها في الساحة الأدبية والثقافية.
(يتبع)