جواهر الرشيد
تمكَّنَ اللِّسانُ العربيُّ بما يحملُه من ثراءٍ بيانيّ مِن أنْ يفصحَ عن أدقِّ المشاعرِ الوجدانيَّةِ في لغةٍ شاعريَّةٍ عاطفيَّةٍ تنسجُ الألفاظَ؛ لتنتجَ دلالاتٍ جديدةً تهزُّ أعماقَ المتلقِّي بإيقاعاتِها وتغمرُه بإيحاءاتِها معبَّرةً عن فكرةٍ محضةٍ مجرَّدةٍ من الخيالِ في قالبٍ عروضيّ يعربُ عن الجمالِ المكنونِ خلفَ كلِّ حقيقةٍ مؤلمةٍ.
عجَّت روميَّاتُ أبي فراسِ الحمداني بألفاظٍ دالَّةٍ على الحزنِ والأسَى والحنينِ والشَّوقِ والخذلان، تنوَّعَت موضوعاتُها بين المدحِ والفخرِ والغزلِ والرِّثاءِ والعتابِ والشَّكوى التي اتخذت الحيّزَ الأكبرَ في روميَّاتِهِ التي نظَمَها تحتَ وطأةِ القَيدِ والعزلةِ مُكبَّلًا في الأسرِ الرُّوميّ مُثقَلًا بجراحِه النَّفسيَّةِ والجسديَّةِ حاملًا مشاعرَ صادقةً جعلت الأدبُ العربيُّ يُخلِّدُ شعرًا وجدانيًّا متميِّزًا بفرادتِه ورصانتِه.
قُتلَ والدُ الشَّاعرِ ولم يتجاوز الثَّالثةَ من عمُرِه، فتلقَّى الرِّعايةَ والاهتمامَ من أمِّه التي زرعَت فيه جوانبَ البطولةِ وسماتِ البسالةِ، احتضنَه ابنُ عمِّه وزوجُ أختِه الأميرُ -سيفُ الدَّولةِ الحمدانيّ- إلى بلاطِه الذي كانَ مقصدَ الوفودِ ومجمعَ الأدباءِ وحلبةَ الشُّعراءِ. تمتَّعَ بحياةٍ رَغِدةٍ في كنفِ الحريَّةِ والإمارةِ تحت حمايةِ سيفِ الدُّولةِ الذي نهلَ من علمِه وفكرِه فنشأَ شاعرًا في ميدانِ المواجهةِ الأدبيَّةِ، وفارسًا محاربًا في ميدانِ المواجهةِ العسكريَّةِ.
أُسِرَ أبو فراس بمباغتةِ جيشٍ من الرّومِ، أُصيبَ بسهمٍ في فخذِه فوقعَ مُثخنًا بالجراحِ مستميلةً روحَه المكبَّلةَ إلى الوهنِ مستمدًّا قوتَه من مصدرِ أمانِه وموضعِ رجائِه سيفِ الدَّولةِ الذي تراخَى في فدائِه؛ لأسبابٍ اختلفت عند المؤرِّخينَ والباحثين، تعودُ بعضُها إلى خشيةِ علوِّ مكانةِ أبي فراس في مضمارِ السِّياسةِ، أو إلى رفضِ الرُّوم قرارِ سيفِ الدَّولةِ المتمثِّلِ في فكِّ إسارِ أبي فراس مع كافَّةِ المسلمين في الأسرِ الرُّوميّ.
شكا أبو فراس قسوةَ سيفِ الدُّولةِ عليه بعدَ أنْ تقاعسَ عن فدائِه، فنظَمَ أبياتًا تأرجحَت فيها مشاعرُه بين الأملِ واليأسِ في صورةٍ فنِّيةٍ معبِّرةٍ عن حقائقَ موجعةٍ، صمَدَ أمامَها بعجزِه الإنسانيّ حامِلًا بين طيَّاتِ قلبِه أصدقَ معاني الحبِّ، قال:
أَسيفَ الهدى وقريعَ العربْ
علَامَ الجفاءُ! وفِيمَ الغَضَبْ!؟
أَلَستُ وإيّــَاكَ من أسـرةٍ
وبيني وبينــَكَ قربُ النَّـسَبْ!
وكنتُ الحبيبَ، وكنتُ القريبَ
لَياليَ أدعوكَ مِن عَن كَثَبْ
فلمَّا بَعُدْتُ بدَتْ جَفوةٌ
وَلَاحَ من الأمرِ ما لَا أُحِبّ
أثنى إحسانَ سيفِ الدَّولةِ إليه، راجيًا رقةَ قلبِه عليه مستعطفًا إيَّاه في عتابٍ صريحٍ يغمرُه شجنٌ بنغمٍ حزين، قالَ:
أَأَجحَدُهُ إحسانَهُ بي إنَّنِي
لكافرُ نُعمَى، إنْ فعلتُ مُوارِبُ
وأنتَ أخٌ تصفُو ونصفُو وإنَّما
الأقاربُ في هذا الزَّمانِ عَقاربُ
وقال:
فليتـــكَ تَحلُـــو والحياةُ مريرةٌ
وليتكَ ترضَى والأنامُ غِضَابُ
وليتَ الذي بيني وبينَكَ عامرٌ
وبيني وبينَ العالمينَ خَرابُ
فيا ليتَ شُربي مِن وِدادِك صافِيًا
وشُربيَ من ماءِ الفُراتِ سَرابُ
وقالَ:
زماني كلُّهُ غَضبٌ وعَتبٌ
وأنتَ عليَّ والأيامُ إِلْـــبُ
فَقُلْ ما شئتَ فيَّ فلِي لِسَانٌ
مَلِيءٌ بالثَّناءِ عليكَ رَطْبُ
وعاملني بإنصَافٍ وظُلْمٍ
تجِدنِي في الجَميعِ كَمَا تُحِبُّ
طالَ الأسرُ بأبي فراس لمدَّةٍ تجاوزَت الأربعَ سنواتٍ، فطالَ الحزنُ معه حتَّى شكَا قسوةَ القلوبِ وجفاءَ الأقاربِ وظلمةَ الأحبابِ وهوَ رهينٌ يتخبَّطُ بينَ أوجاعِه غرابةَ الشّعورِ في الأسرِ الرُّوميّ، عزفَ فيها أوجاعَه المكبوتةَ فيما يقاربُ خمسًا وأربعين قصيدةً ناجَى فيها اللَّيلَ والنُّجومَ وخاضَ الوغَى والحروبَ وطربَ مع أحزانِ الطُّيورِ والحَمام. أحزنَه نواحُ حمامةٍ، فشاطرها همومَه مستشعرًا هوانَ روحِها التي تماثلُ روحَه المنكسرةَ والضَّعيفةَ ناظمًا هذه المشاركةَ الوجدانــيَّةَ في لغةٍّ بهيَّةٍ يكسوهَا حزنٌ بدمعٍ دفين، قال:
أقولُ وقد ناحَت بقربي حمامَةٌ
أيَا جارتَا هل باتَ حالُكِ حالِي؟
معاذَ الهَوى! ما ذُقتِ طارقةَ النَّوى
ولا خطرَت منكِ الهمومُ ببالِ
أَتحمِلُ محزونَ الفؤادِ قوادِمٌ
على غُصُنٍ نائِي المسافةِ عالِ؟
أيَا جارتَا ما أنصفَ الدَّهرُ بيننَا!
تعالي أقاسمُكِ الهمومَ تعالي
أيضحَكُ مأسورٌ، وتبكِي طليقةٌ
ويسكتُ محزونٌ، ويَندُبُ سالِ؟
لقد كنتُ أَولى منكِ بالدَّمعِ مُقلةً
ولكنَّ دمعِي في الحوادثِ غالِ!
ردَّ سيفُ الدَّولةِ أمَّ الشَّاعرِ خائبةً بعدَ أنْ نصتهُ بقلبِها المحروقِ راجيةً منه فكَّ إسارِ ابنِهَا، الذي رثاهَا بقصيدةٍ موجعةٍ ضاعفَ عليه قسوةَ الأسرِ وحرقةَ الدَّهرِ، قال:
أيَا أمَّ الأسيرِ، سقاكِ غيثٌ
بكُرهٍ منكِ ما لقيَ الأسيرُ!
أيَا أمَّــــاهُ كم همٍّ طويلٍ
مضَى بكِ لم يكُن منه نصيرُ؟!
إذا ابنُكِ سارَ في بَـرٍّ وَبحرٍ
فمَنْ يَدعُو لَـهُ أَو يَستجِيرُ؟
حرامٌ أنْ يَبيتَ قَريرَ عَينٍ
وَلُؤْمٌ أنْ يُلِمَّ بهِ السُّرورُ!
صوَّرَ الشَّاعرُ واقعَ أسرِه بصدقِ إحساسِه ورقِّةِ قلبِه وإخلاصِه في وحدةٍ مليئةٍ بألمِ الخذلانِ ووجعِ الرُّوح، فجاءَت روميَّاتُه مترجمةً مآسِيهِ وآلامَهُ النَّفسيَّةَ متَّخذًا الشِّعرَ سلاحًا لنصرِ روحِه المقيَّدةِ، ووسيلةً للتَّعبيرِ عن جراحِه بنزعةٍ إنسانيَّةٍ يغمرُهَا الشَّوقُ والحنينُ إلى الأحبَّةِ والخلَّانِ والأوطانِ. مزجَ أحزانَهُ برُقِيّ ألفاظِهِ في شِعرٍ عَربِيٍّ وِجدانيٍّ أَصِيل، موظِّفًا اللَّفظةَ في نسقٍ لغويٍّ ناتجٍ عن ملكةٍ شعريَّةٍ مطبوعةٍ بعيدةٍ عن الصَّنعةِ والفلسفةِ والغُموضِ والتَّعقيدِ، قال:
هل تعطفانِ على العَليلِ؟
لا بالأسيرِ ولا القتيلِ
باتَتْ تقلِّبُهُ الأَكُفُّ
سحابةَ اللَّيلِ الطَّويلِ
يرعَى النُّجومَ السَّائراتِ
من الطّلوعِ إلى الأفولِ
فقدَ الضُّيوفُ مكانَهُ
وبـكاهُ أبناءُ السَّـبيلِ
واستوحشَتْ لفراقِه
يومَ الوغَى سِربُ الخيولِ
أينَ المحبَّةُ والذِّمامُ
وما وعدْتَ من الجميلِ؟
أَجمِلْ على النَّفسِ الكريمةِ
فيَّ، والقلبِ الحَمُولِ!
أمَّا المحبُّ فليسَ يُصغِي
في هواهُ إلى عَذُولِ
يمضِي بحالِ وفائِـــهِ
ويَصُدُّ عن قالٍ وقِيلِ!