خالد محمد الدوس
علماء الاجتماع المؤسسين والرواد الأفذاذ الذين قدموا إسهاماتهم العلمية ومنجزاتهم البحثية حتى ولد هذا العلم ولادة طبيعية من رحم تخصصات أخرى..!!، حيث كان رواده الأوائل والعلماء والمفكرون ذوو خلفيات متنوعة استخدموا أدوات تخصصاتهم الأصلية لتحليل وفهم التحولات الكبرى في مجتمعاتهم واعتمدوا على أسس منهجية وأطر بنائية سيوسولوجية مما أدى إلى بلورة علم مستقل قائم بذاته له نظرياته وأبحاثه ومدارسه ومقوماته العلمية.
وأبرز هؤلاء العلماء الأوائل الذين نهض علم الاجتماع على اكتافهم مؤسس علم الاجتماع الحديث بمفهومه الأكاديمي العالم الفرنسي (أوجست كونت) الذي صاغ مصطلح علم الاجتماع لأول مرة وأطلق عليه «الفيزياء الاجتماعية».
ففي البداية طرح فكرة أن دراسة المجتمع يجب أن تقوم على الملاحظة والتجريب والتاريخ المقارن (المنهج الوضعي) واعتبره الكثيرون «أبو علم الاجتماع» نظرا لأنه من حدد موضوعه وطموحه العلمي طبعا كان تخصصه الأصلي (الفلسفة والرياضيات)..!
أما الأب الثاني لعلم الاجتماع العالم الشهير ( كارل ماركس) الذي قدم إسهاماته العلمية وشكّل أحد الأرقام الصعبة للنظرية الاجتماعية وقدم تحليلا معمقا لبنية المجتمع الرأسمالي من خلال مفاهيم مثل: الطبقة الاجتماعية، والاستغلال والأيديولوجيا (كوعي زائف) وأثرت نظريته حول تحديد الوجود الاقتصادي (البنية التحتية) للوعي والثقافة، و(البنية الفوقية) بشكل عميق على علم الاجتماع النقدي وتحليل قوى السلطة والهيمنة. طبعا كان تخصص الأب الروحي للنظرية الصراعية (ماركس) في (القانون والاقتصاد والفلسفة).
أما الأب الثالث لعلم الاجتماع الفرنسي (إميل دوركهايم) والذي يعتبره الكثيرون المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع بعد أن نجح في جعله تخصصا أكاديميا مستقلا له مناهجه وقواعده، وشغل أول كرسي لعلم الاجتماع في جامعة بوردو الفرنسية، وطور المنهجية العلمية لدراسة «الوقائع الاجتماعية» ومعاملتها كأشياء قابلة للدراسة، وقدم دراسات تجريبية رائدة مثل كتابه الانتحار، وقدم مفهوم «الضمير الجمعي والتضامن الآلي والعضوي»، وشكّل رقماً مؤثراً في خارطة علم الاجتماع «بنائيا ووظيفيا». ورغم المنجزات الغنية التي أثرت هذا العلم الخصب فقد كان تخصصه الأصلي الفلسفة.
أما الأب الرابع لعلم الاجتماع العالم الألماني الشهير (ماكس فيبر) الذي كان تخصصه الأصلي في (القانون والاقتصاد والتاريخ) فقد ساهم بفكر رصين في ترسيخ علم الاجتماع كعلم تفسيري عارض النزعة الحتمية، (كالاقتصاد عند ماركس، أو البيولوجية عند سبنسر وغيره) وركز على فهم الفعل الاجتماعي وفهم المعاني الذاتية التي يضعها الأفراد لأفعالهم، وقدم النموذج المثالي كأداة تحليلية، ومن أشهر إسهاماته كتاب «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، وربط بين المعتقدات الدينية (القيم) ونشوء النظام الرأسمالي (الاقتصاد) ودراسته لظاهرة السلطة والبيروقراطية.
أما الأب الخامس لعلم الاجتماع العالم الإنجليزي (هربرت سبنسر) الذي كان تخصصه الأصلي في (البيولوجيا) فقد قدم إسهامات علمية ذات تأثير في ولادة علم الاجتماع ولادة طبيعية من رحم تخصصات متنوعة، وقام بتطبيق نظرية التطور البيولوجي (داروين) على المجتمع معتقدا ان المجتمعات تتطور من أشكال بسيطة إلى معقدة عبر عملية البقاء للأصلح وكانت نظريته (التطور الاجتماعي) مؤثرة جدا في عصره وساهم في نشر فكرة أن المجتمع يمكن دراسته ككائن حي متطور.
وبالطبع هؤلاء العلماء العباقرة والمفكرون والفلاسفة لم ينظروا لأنفسهم كعلماء اجتماع بالمعنى الأكاديمي الحديث..! بل كانوا فلاسفة ومؤرخين واقتصاديين وعلماء قانون استجابوا للتحديات الهائلة التي فرضتها الثورتان الصناعية والفرنسية (الفردية، التمدن، انهيار التقاليد، الرأسمالية، العلمانية) أدى بالتالي إلى تجميع رؤاهم ومناهجهم المتنوعة في النهاية إلى تشكيل أرضية صلبة ودعائم متينة لقيام علم الاجتماع كميدان مستقل بهويته السوسيولوجية.. يدرس البنُى والعمليات والظواهر والعلاقات الاجتماعية. وبذات الوقت يظهر علم الاجتماع أنه مجال خصب للتحصصات بامتياز.!
وبالتأكيد لا يمكن أن ننسى سيرة العلامة والأب الروحي لعلم الاجتماع عبدالرحمن ابن خلدون -رحمه الله تعالى- الذي كان تخصصه الأصلي التاريخ والدراسات الإسلامية ويعتبر المؤسس الأول لعلم الاجتماع وأطلق عليه اسم «علم العمران البشري» وقدم في مقدمته العملاقة الشهيرة تحليلا للظواهر الاجتماعية مثل العصبية (التماسك الاجتماعي) ودورة حياة المجتمعات، والعمران البشري ونقد التاريخ ومنهجية الكتابة التاريخية، وأثر المناخ على الطبائع، والدين ودوره في المجتمع، وغيرها من الموضوعات الخلدونية التي شكلت الأرضية الصلبة لنشأة وولادة وقيام علم الاجتماع بميادينه المتعددة، مما يجعل» المقدمة» عملاً خالداً يستحق القراءة والدراسة المتأنية.