د. عبدالحليم موسى
حينما أعلنت اليونسكو أن المعلم لا يُستبدل، لم يكن ذلك مجرد شعار إنشائي يُرفع في المؤتمرات، بل كان تعبيرا عن حقيقة إنسانية عميقة، تعكس مدى إدراك المجتمع الدولي لمكانة المعلّم في صناعة الحضارات، حتى في ظلّ أعظم التحولات التقنية والرقمية؛ فالتعليم مهما بلغ من تطور تقني، يظل فعلا إنسانيا بامتياز، يقوم على العلاقة الجوهرية بين المعلم والمتعلم، وهي علاقة لا تقتصر على تبادل المعلومات، وإنما هي فعل تكويني للإنسان في أبعاده الأخلاقية والعقلية والوجدانية.
فالمعلم في كل العام الدراسي لن يكون مجرد ناقل للمعرفة، بل هو صانع فضاء أخلاقي يحدد ملامح العلاقة بين الطلاب، فحين يتجلى حضوره بروح العدل والاحترام، يزرع في نفوس طلابه قيمة الاعتراف بالآخر بدلا من السخرية منه.
إنّ دور المعلم اليوم لا يقتصر على ردع التنمر كفعل سلبي، بل يتجاوز ذلك إلى بناء مناعة نفسية وجماعية ضد ثقافة الإقصاء؛ فالمدرسة التي يغمرها المعلم بصفاء روحه تتحول إلى بيت آمن، حيث يصبح الاختلاف مصدر ثراء لا سببا للاعتداء، وتتجلى فلسفة التربية بوصفها مشروعا إنسانيا يوازن بين العقل والقيم؛ فهو ليس حارسا لبوابة المعرفة فحسب؛ بل حارس للكرامة الإنسانية أيضا.
منذ أن اختار الخليفة هارون الرشيد الإمام الكسائي ليكون معلما لولديه الأمين والمأمون، كان يدرك أن التعليم لا يمكن وصفه بأنه مجرد تلقين للمعرفة، بل غرس للأدب والقيم. فقال كلمته المشهورة: علّموهما قبل العلم الأدب، فإنهما إن استقاما على الأدب سهُل عليهما طلب العلم، وفي هذا دلالة على أن دور المعلّم يتجاوز حدود الكتاب، فهو قدوة تربوية تهذب السلوك وتبني الشخصية.
يخطئ من يتصور أن المستقبل يقوم على صراع بين المعلم والتقنية؛ فالذكاء الاصطناعي ليس بديلا عن المعلم، وإنما هو أداة بين يديه، فالمعلم هو الذي يمنح التقنية روحها ويوجهها نحو الخير، ويحولها من مجرد وسيلة إلى وسيلة ذات مغزى.
إن حضور المعلم هو ما يجعل التكنولوجيا نافعة، إذ يحولها إلى أداة للتفكير النقدي، ويقود بها التلاميذ نحو الإبداع، ويربطها بالمسؤولية الأخلاقية، وستظل جدلية العلاقة بين المعلم والذكاء الاصطناعي ليست علاقة إقصاء، وإنما علاقة تكامل؛ فالتقنية تقدم الأدوات، والمعلم يمنحها الهدف والمعنى.
وفي عالم التحولات الرقمية، يصبح المعلم فيلسوفا عمليا أكثر من أي وقت مضى، فهو يوازن بين عالمين؛ عالم التقنية المليء بالسرعة والكم، وعالم الإنسان المليء بالقيم والمعنى، فهو الحارس الأمين الذي يضمن ألا تتحول الرقمنة إلى عبودية جديدة للآلة، وهو الذي يذكّر الأجيال بأن التعليم ليس مجرد مهارة وظيفية، بل هو بناء للحياة الإنسانية في جوهرها.
في أعقاب جائحة كورونا، اعتمدت فرنسا بشكل واسع على التعليم عن بُعد ومنصات التعليم الرقمي، لكن سرعان ما ظهرت لها العديد من الإشكالات تمثلت في تفاوت فرص الوصول إلى الإنترنت بين الطبقات الاجتماعية، بجانب ضعف التفاعل الإنساني المباشر بين المعلمين والطلاب، وتراجع مهارات الحوار والعمل الجماعي لدى التلاميذ.
وحينما برزت هذه الإشكالات على سطح مخرجات التعليم أعلنت وزارة التربية الفرنسية العودة التدريجية إلى التعليم التقليدي الحضوري في العام 2022، مع الإبقاء على مكوّن رقمي مساعد فقط، وهذه التجربة أعادت الاعتبار لدور المعلم باعتباره شخصية محورية في التربية والتنشئة، وقد شكل هذا التوازن نموذجا أوروبيا بارزا يوضح أن المدرسة ليست مجرد فضاء لتلقي المعرفة، بل هي مؤسسة اجتماعية وتربوية لا يمكن استبدالها بالرقمنة. بينما جاءت تجربة نيوزلندا التي تصنف ضمن أفضل عشر دول عالميا في جودة التعليم وفق تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وتقوم تجربتها على التوازن بين التعليم التقليدي والرقمي، مع اهتمام خاص بالهوية الثقافية للمجتمع الأوروبي.
اليوم كلنا ننظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه قادرا على تقديم المعرفة وتوليد النصوص وحل المعادلات وتحليل البيانات، بيد أنّ هذا كله يظل محصورا في الجانب الآلي الميكانيكي؛ فالآلة لا تستطيع أن تزرع في الطالب قيما أخلاقية، ولا أن توقظ فيه الشعور بالانتماء الإنساني والوطني، ولا أن تمنحه الإحساس بالمسؤولية، فالذكاء الاصطناعي قد يساعد الطالب على كتابة موضوع أو إنجاز بحث، لكنه لن يعلّمه كيف يكون إنسانا مسؤولا، أو كيف يوازن بين الحقوق والواجبات المجتمعية، أو كيف يعيش معنى العدل والرحمة. ونستصحب هنا قول جان جاك روسو في كتابه إميل وأهميته البالغة إزاء المعلم حينما يقول: المعلم الحق لا يملأ العقول بالمعلومات، بل يوقظ فيها ملكات التفكير. ويضع جان جاك روسو يده على جوهر الألم، حينما يشير الى أن التعليم ليس تراكم معلومات، بل إيقاظ للفكر، وإطلاق للخيال، وتنمية لقدرة المتعلم على إنتاج المعنى.
الذكاء الاصطناعي أحدث نقلة نوعية في التعليم، مما جعل المخرجات أكثر جودة وملاءمة للمستقبل، ولكن هناك العديد من التحديات كضعف البنية التحتية وإشكالات الخصوصية، تفرض إعادة النظر المستمر في بعض المناهج كل عام دراسي؛ ويعضد الخبير التربوي كين روبنسون هذا الاتجاه حينما قال: التعليم يحتاج إلى ثورة لا إصلاحات شكلية.
ومن هنا تصبح مراجعة المناهج سنويا ضرورة لضمان مخرجات تعليمية متجددة ومواكبة لعصر التعليم الذكي.