فوزية الشهري
في زمنٍ تحوّلت فيه الشاشات الصغيرة إلى منصات كبرى، أصبح العالم الافتراضي نافذةً يومية لا تغيب عن حياتنا، وشهد المجتمع في السنوات الأخيرة طفرة هائلة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حتى باتت منصات مثل «سناب شات»، «تيك توك»، و»إنستغرام» جزءًا لا يتجزأ من يومياتنا.
هذا الانفتاح أتاح فرصًا ذهبية لنشر المعرفة، والإبداع، وصناعة قصص نجاح مُلهمة، لكنه في الوقت ذاته فتح الباب أمام ظاهرة مقلقة، حيث تصدّر المشهد أشخاص لا يملكون سوى الجرأة على إثارة الجدل أو تقديم محتوى فارغ، فصنعوا لأنفسهم شهرة سريعة، على حساب قيم المجتمع ووعيه.
في الماضي، كانت الشهرة تاجًا لا يُمنح إلا لمن يستحقه، تُبنى على الموهبة، والإنجاز، والعمل الدؤوب. كانت ثمرة لمسيرة حافلة بالعطاء، ورمزًا للإبداع الحقيقي. أما اليوم، فقد تغيّر المشهد تمامًا؛ فأصبحت الشهرة متاحة لكل من يُجيد لفت الأنظار، حتى وإن كان محتواه سطحيًا أو صادمًا. لم تعد تحتاج إلى جهد أو تميّز، بل يكفي مقطع مثير أو صورة غريبة لتصنع «نجومية» بين ليلة وضحاها، في انعكاسٍ واضح لانهيار المعايير الحقيقية للنجاح.
هذه الظاهرة لم تعد مجرد ترفيهٍ عابر، بل تحولت إلى قضية اجتماعية واقتصادية مقلقة، حين أصبح بعض هؤلاء «المشاهير التافهين» واجهات دعائية تدر الملايين، بينما يقف صانعو المحتوى الهادف في الظل، يُكافحون لإيصال رسائلهم، ويجدون أنفسهم في منافسة غير عادلة أمام ضجيج المحتوى الفارغ.
الأخطر من الجانب المادي هو التأثير على القيم المجتمعية؛ فقد باتت الأجيال الجديدة تقيس النجاح بعدد المتابعين، لا بحجم الإنجاز أو قيمة ما يُقدّم. والأسوأ أن بعض الأسر تتهاون في متابعة ما يستهلكه أبناؤها، فتترسخ في عقولهم صورة زائفة عن النجاح، فيظنون أن الطريق الأقصر للشهرة والمال يمر عبر إثارة الجدل لا بذل الجهد. ومع مرور الوقت، تتّسع الفجوة بين القيم الحقيقية والمزيفة، فتضعف طموحات الشباب، وتتشوه معاييرهم. ولا يقتصر الخطر على القيم فقط، بل يمتد إلى الصحة النفسية؛ فقد أشارت دراسات حديثة إلى أن الاستخدام المكثف لمواقع التواصل يرتبط بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب والعزلة، خصوصًا بين المراهقين، نحو نصف المستخدمين يعانون من أعراض نفسية مرتبطة بالإفراط في التعرض لمحتوى هذه المنصات، ما يعكس حجم التهديد الذي تشكله هذه الظاهرة على المجتمع والأفراد.
ومع كل هذا، تبقى المواجهة ممكنة إذا بدأنا من الجذور. الأسرة هي خط الدفاع الأول؛ فعلى الوالدين أن يكونوا حاضرين في حياة أبنائهم، يراقبون نوعية المحتوى الذي يتابعونه، ويعززون لديهم قيمة الإنجاز والعمل الجاد، بدلاً من الانجراف وراء وهم «المشاهدات». يليه دور المؤسسات التعليمية التي يجب أن تُدرج برامج توعوية تُنمّي مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب، ليصبحوا قادرين على التمييز بين المحتوى الهادف والمحتوى الضار.
أما الإعلام، فمسؤوليته مضاعفة، إذ لا بد أن يضع معايير واضحة لاختيار ضيوفه ومقدمي برامجه، بحيث تُبنى على الكفاءة لا على عدد المتابعين. كما ينبغي تسليط الضوء على النماذج الملهمة وأصحاب الرسالة، ليحظوا بالاهتمام نفسه الذي يُمنح لمروّجي التفاهة. وكذلك على الجهات المنظمة أن تضع لوائح صارمة لضبط هذا القطاع، بحيث لا تُمنح الإعلانات أو فرص الظهور إلا لمن يلتزم بمعايير أخلاقية ومهنية واضحة.
ولا ننسى دور الفرد العادي، فكل متابعة، وكل إعجاب، وكل إعادة نشر، هي بمثابة تصويت يحدد من يبقى ومن يتلاشى. حين يدرك المتابع أنه يمتلك هذه القوة، سيصبح أكثر وعيًا في خياراته، فيسقط نجوم التفاهة، ويمنح مكانته لأصحاب الفكر والإبداع.
في النهاية، ليست المشكلة في مقاطع الفيديو السطحية وحدها، بل في تحول التفاهة إلى ثقافة عامة تُكافأ، فيكبر جيل يظن أن النجاح يُقاس بالمشاهدات لا بالقيمة. الطريق إلى التغيير يبدأ منّا جميعًا: أسرةً، ومدرسةً، وإعلامًا، وحتى متابعًا بسيطًا. وحين نتوقف عن تمجيد التفاهة ونُعيد الاعتبار للإنجاز والعمل الجاد، سنبني مجتمعًا أقوى، وأجيالًا تدرك أن القمة لا تُختصر بمقطع عابر، بل تُصنع بالصبر والإبداع.
أؤمن أن للكلمة أثرًا بالغًا في تشكيل الوعي، وأن مسؤوليتنا تجاه مجتمعنا تبدأ من وعينا بما نتابعه ونحتفي به. ولعل تكرار الحديث عن هذه الظاهرة يكون بمثابة صرخة وعي، تذكّرنا بأننا جميعًا شركاء في صناعة المشهد الإعلامي، وأننا نملك القوة لنرفع قيمة الفكر على الضجيج، والإنجاز على التفاهة، والمحتوى الهادف على المحتوى العابر.