أحمد الجروان
رحلاتي في المترو تشبه دفاتر مفتوحة.
كل يوم صفحة جديدة تُكتب عن مستخدم للمترو.
الوجوه تتبدل في كل مرة.
يدخل راكب، ويغادر آخر.
وتبقى المقاعد شاهدة على قصص لا نعرفها.
إلى أن يبدأ صوتان متقاطعان في كسر الهدوء ويكشفان شيئًا من تلك القصص.
كانت سيدة تجلس بجوار ابنتها.
وعيناها تتأملان المباني الممتدة خلف نافذة العربة.
قالت: «الرياض تغيّرت يا بنتي، ما عادت مثل أول.
كنت أعرف كل أسواقها الصغيرة وأبوابها الخشبية.
كنا نروح شارع الثميري ونمشي بين الدكاكين البسيطة».
أجابت الابنة:
«الحين يا أمي المنطقة كلها صارت قصر الحكم.
والمكان نفسه صار قلب للمدينة الحديثة».
تابعت الأم:
«تذكرين عماير الخالدية القديمة؟ كانت أطول شيء في البلاد.
نوقف نتفرج عليها كأنها ناطحة سحاب».
علّقت الابنة:
«الحين إذا شفتي برج المملكة أو الفيصلية تحسينها مجرد بداية لطريق طويل».
وأنا أتابع الحوار بينهما، شعرت أن العمران المتسارع في الرياض جعل الأم تعيش حضارتين لمدينة واحدة.
حضارة أولى تنسج تفاصيلها من الأسواق القديمة والطرقات الضيقة.
وحضارة ثانية ترتفع فيها الأبراج وتتشابك الجسور وتزدحم السيارات.
وجدت نفسي واقفًا بين زمنين.
أحدهما يسكن في ذاكرة الأم.
والآخر يتجلى في لغة ابنتها.
لم تتوقف الأم عند ذلك.
استعادت ذكرى قديمة وقالت:
«كنّا نعدّ السيارات في شارع الوزير.
إذا صارت أكثر من عشر نوقف ونتعجب.
كان زحاما صغيرا بالنسبة لنا.
أما اليوم فما عادت الشوارع تكفي».
قالت الابنة:
«الحين يا أمي عندنا طرق دائرية وممرات سريعة.
والزحمة ما تنتهي حتى مع كباري جديدة كل سنة».
قالت الأم:
«الأيام تغيّرت، والزحام تغيّر،
وإحساس الطريق ما فارقنا».
ردت البنت:
«إي بس الحين نقدر نركب المترو ونشوف الزحمة من بعيد».
استرسلت الأم:
«بيوت الرياض يا بنتي كانت طين وساحات مفتوحة.
كل جيران يعرفون بعضا.
وأول ما يغيب واحد الكل يسأل عنه.
كنا نجتمع في المجالس الكبيرة.
ونسهر على سراج يضيء لنا نصف الحارة».
أجابت الابنة:
«الحين كل حي مقسوم بمداخل ومخارج.
والبيوت تضم عائلات كبيرة.
لكن الناس يحتفظون بتواصلهم في المنازل وفي المناسبات العامة والخاصة.
صرنا نلتقي في المولات والمقاهي.
حتى الأطفال يلقون مساحات للعب».
قالت الأم:
«يعني تبدلت المجالس بس ما راحت الروح.
انتقلت من بيوت الطين إلى مساحات خضراء».
استرسلت الأم بصوت بدا أكثر دفئًا:
«الأعياد عندنا زمان كانت بسيطة.
نجتمع كل الحارة في بيت واحد.
الأطفال يلفّون الشوارع بثياب جديدة ويغنّون الأهازيج.
لحظات صغيرة تملأ القلب بالفرح.
واليوم صرت أشوف الرياض تحتفل بطرق ما كنت أتخيلها.
مواسم كبيرة وفعاليات تملأ الساحات.
وأضواء تغيّر شكل المدينة كلها.
يمكن اختلفت العادات يا بنتي.
لكن الفرح ما انقطع.
صار أوضح وأوسع ويجمع ناس من كل مكان».
قالت الابنة:
«وهذا أجمل شي يا أمي.
إن الرياض ما نسيت فرحها.
كبرته وصار بحجمها الجديد».
وأنا أستمع لهما، فكرت:
ما شهدته الرياض حتى الآن بداية.
المشاريع لا تتوقف.
المخططات تمتد أبعد من الأفق الذي يظهر من نافذة المترو.
التطور القادم ليس أبراجًا أعلى أو طرقًا أوسع.
هو تغيير في تفاصيل الحياة.
في السكن والعمل.
في لقاء الناس وتبادلهم الفرح.
شعرت أن المدينة تمشي بخطى أسرع من قطارها.
وأن ما نراه اليوم ملامح أولى لعاصمة تصوغ مستقبلها.