د. داليا عبدالله العمر
في عالم يشهد تحولات اقتصادية متسارعة، لم يعد من الممكن أن تظل الدول رهينة مصدر واحد للدخل، والأمة التي يقتصر ناتجها المحلي على البترول أو على الضرائب والخدمات وحدها، تظل أمة ضعيفة مهما كان تاريخها عريقًا. من هنا تبرز الصناعة الوطنية كخيار استراتيجي، فهي ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل ركيزة أساسية في بناء اقتصاد قوي قادر على الصمود والتطور.
لقد أظهرت تجارب دول مثل كوريا الجنوبية وماليزيا أن الاستثمار في الصناعة المحلية مع فرض سياسات حماية مدروسة، مثل الرسوم الجمركية على السلع المستوردة التي لها بديل محلي، كان سببًا رئيسًا في بروز شركات وطنية عملاقة باتت اليوم تنافس عالميًا (Amsden, 2001). وفي السياق نفسه، يؤكد تقرير البنك الدولي (2020) أن توسيع قاعدة الصناعات التحويلية أسهم بشكل مباشر في رفع متوسط الدخل وتقليل معدلات البطالة.
من ناحية أخرى، يبين علم سلوك المستهلك أن المواطنين أكثر ميلًا لشراء المنتج المحلي متى ما كان سعره منافسًا، وجودته مقاربة للمستورد، بل إن بعض الدراسات المنشورة في Journal of Consumer Behaviour (2019) ربطت بين قرار الشراء والانتماء الوطني، وهو ما يعزز دور الرقابة الحكومية في ضبط الأسعار داخليًا كي لا يتحول دعم المصانع إلى عبء على المستهلك.
لكن حماية الصناعة وحدها لا تكفي، إذ لا بد من توفير أحدث التقنيات وخطوط الإنتاج الأوتوماتيكية بالكامل، بما يقلل من الاعتماد على العمالة الوافدة ويفتح المجال لتوظيف أبناء الوطن في وظائف نوعية برواتب مجزية وتنافسية. هذا التوجه سيضمن في المدى القريب تلبية الاحتياج المحلي، ومع مرور الوقت واكتساب الخبرة سيتمكن الشباب السعودي من تطوير أساليب إنتاج أكثر كفاءة تجعل الصناعة الوطنية قادرة على المنافسة عالميًا. وقد بينت أبحاث في Industrial and Corporate Change (Gereffi, 2018) أن الدول التي اعتمدت التصنيع عالي التقنية رفعت إنتاجيتها بشكل ملموس وقللت فجوة المهارات بين العمالة المحلية والأجنبية.
الصناعة كذلك تمثل محركًا شاملًا للتنمية، فوفقًا لتقارير منظمة العمل الدولية (ILO, 2022)، فإن كل وظيفة صناعية مباشرة تولّد ما بين 1.6 إلى 2.5 وظيفة غير مباشرة في قطاعات أخرى مثل النقل والخدمات والتوزيع. وهذا يعني أن بناء قاعدة صناعية وطنية متينة لن يسهم فقط في خفض البطالة، بل سيحرك عجلة الاقتصاد بأكمله، ويعزز مسار المملكة نحو تحقيق مستهدفات رؤية 2030.
من الواضح إذن أن دعم الصناعة المحلية ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية، ومع سياسات حماية ذكية، واستثمارات تكنولوجية متقدمة، ورقابة فعّالة على الأسعار، وتشجيع وعي المستهلك، يمكن للمملكة أن تنتقل من مرحلة الاعتماد على النفط إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، ثم إلى المنافسة العالمية. فالأمم التي تبني صناعة قوية تضمن لنفسها القوة والاستقرار، بينما الأمة التي يقوم ناتجها المحلي على النفط والضرائب والخدمات فقط، تظل أضعف مما تستحق مقارنة بتاريخها العريق وطموحاتها الكبيرة.
** **
المراجع:
World Bank (2020). World Development Report: Trading for Development in the Age of Global Value Chains.
Amsden, A. (2001). The Rise of «The Rest»: Challenges to the West from Late-Industrializing Economies. Oxford University Press.
Journal of Consumer Behaviour (2019). Studies on consumer preference for domestic vs imported goods.
Gereffi, G. (2018). Global Value Chains and Development: Redefining the Contours of 21st Century Capitalism. Industrial and Corporate Change.
International Labour Organization (ILO) (2022). World Employment and Social Outlook.