صالح الشادي
ليست الذرائع سوى أوهام مُحكمة ننسجها حول أفعالنا كبشر، لنجعل القبيح مقبولًا، والغزو تحريرًا، والاحتلال حماية.
لكن على مسرح السياسة الدولية، تتحول هذه الآلية إلى فن معقد من فنون السيطرة وإعادة تشكيل الجغرافيا والبشر. إنها «فلسفة الذريعة»؛ المبدأ الذي يجسد مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» في أبشع صورها، حيث تُصمم الذرائع بدقة في دهاليز أجهزة الاستخبارات وغرف عمليات ما يُعرف بالدولة العميقة، ليُقدم للعالم سبباً وهميا يبرر الفعل العدواني الحقيقي.
الذريعة ليست حدثًا عابرًا، بل هي عملية استخباراتية قد تمتد جذور تخطيطها لسنوات. مسرحية يُكتب نصها بعناية فائقة، وتُخرج بدقة، ويُختار ممثلوها من بين الظلاميين وأصحاب المصالح، ليقدموا للجمهور العالمي دراما مقنعة، يكون مشهدها النهائي دماً ودماراً وحروباً تخدم في النهاية مصالح من صنعوها.
تمر عملية صناعة الذريعة بمراحل دقيقة، تبدأ بتحديد الهدف الاستراتيجي الخفيّ، سواء كان السيطرة على موارد طبيعية أو إسقاط نظام معادٍ أو إلهاء الرأي العام عن أزمات داخلية.
تليها مرحلة البحث عن «شرارة» يمكن تضخيمها، أو حتى اختلاقها من العدم عبر ما يُعرف بعمليات «العلم المزيف»، حيث تُنفذ عمليات عدائية وتُنسب إلى الخصم المراد استهدافه.
بعدها يأتي دور الآلة الإعلامية الجبارة، التي تعمل على تضخيم الحادث وتقديمه ضمن خطاب عاطفي مثير، يرتكز على شعارات براقة مثل «محاربة الإرهاب» أو «نشر الديمقراطية» أو «الدفاع عن النفس». وهكذا، يصبح التدخل العسكري أو الاقتصادي اللاحق مقبولاً - أو على الأقل غير قابل للمنع - في أعين الكثيرين.
التاريخ يمتلئ بذرائع كثيرة شكّلت منعطفات مصيرية، بعضها قديم وبعضها لا يزال دافئًا تحت رماد الحاضر:
ففي العام 1933، أضرم النازيون النار في مبنى البرلمان الألماني (الرايخستاغ) ثم ألقوا باللوم على الشيوعيين، لتصبح تلك الذريعة المبررَ المثالي الذي منح هتلر صلاحيات استثنائية قضت على ما تبقى من الديمقراطية، مهددة الطريق لأفظع حرب عرفها التاريخ.
ولم تكن حادثة «مروحة الداي» في الجزائر سوى ذريعة تافهة اختلقها القنصل الفرنسي، لتحرق بعدها سفن الأسطول الجزائري، وتليها 132 عاماً من استعمار بغيض، كل ذلك لأن حاكماً جزائرياً ضرب مروحة في وجه قنصل متغطرس.
أما في العصر الحديث، فما زال صداها يتردد. فغزو العراق في 2003 بُني على ذرائع مُختلقة، تمثلت في ادعاء امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل وتعاونه مع تنظيم القاعدة. جُوبِهت الصحاري والقصور ولم يعثر على شيء، لكن الذريعة كانت قد أدت دورها وتم غزو البلاد وتدميرها.
ولم تكن هجمات 11 سبتمبر مجرد ذريعة لإنهاء وجود طالبان في أفغانستان، بل كانت الذريعة الكونية الشاملة التي أطلقت يد القوة العظمى في ما سُمي «الحرب على الإرهاب»، التي كانت في جوهرها غطاءً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤية هيمنة جديدة.
وحديثاً جداً، نرى كيف يتم استخدام هجوم «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر كذريعة مطلقة لحرب شاملة على قطاع غزة، تتجاوز بأهدافها الحقيقية فكرة الرد العسكري إلى تحقيق مخططات استراتيجية أوسع تروم تهجير السكان وفرض سيطرة كاملة على الأرض، تحت غطاء «حق الدفاع عن النفس».
وفي إطار ذريعة ملاحقة قادة حماس، نجد أيضًا ضرب إسرائيل المتكرر لقطر بالاتهامات والتهديدات، والادعاء بأنها تؤوي قادة الحركة وتدعمها. هذه الذريعة تتجاهل حقيقة أن قطر، وفي إطار وساطة معترف بها دوليًا، استضافت مكتبًا سياسيًا لحماس بموافقة إسرائيلية وأمريكية ضمن حسابات سياسية معقدة. فتحولت هذه الصفة القانونية والسياسية المعروفة سابقًا إلى ذريعة مفاجئة لتوجيه النقد السياسي ولممارسة الضغوط، في إطار حرب إعلامية ودبلوماسية لا زلنا نشهدها ونعايشها.
فلسفة الذريعة لا تقتصر على الحروب، بل تتسرب إلى كل شيء. ففي صراع الشركات، على سبيل المثال قد تختلق شركة ذريعة مثل تسريب أخبار كاذبة عن منافستها لتبيع أسهمها بثمن بخس وتسيطر على السوق. وعلى المستوى الشخصي، يقدم الإنسان ذرائع اجتماعية مقبولة لتبرير إخفاق أو عدم رغبة، كالقول: «انشغال بالعمل» أو «الظروف لم تسمح».
ما أود قوله في خاتمة حديثي.. إنه في عالم تتحكم فيه القوى الكبرى بمصائر الشعوب، وتصنع مبرراتها من أوهام وأكاذيب.. يصبح الوعي النقدي والمساءلة المستمرة هما السلاح الأهم. ولا بد من تفكيك الخطاب الرسمي، وطلب الأدلة لا الشعارات، وإحياء الصحافة الاستقصائية الحرة.
فالذريعة، في نهاية المطاف، هي قناع تلبسه الوحوش لتبدو كالملائكة. ومهمتنا أن نرى المخالب خلف القناع، وأن نرفض أن تكون دماؤنا وأوطاننا ثمناً رخيصاً لأكاذيبهم.