د. رانيا القرعاوي
كان أول درس تعلمته في قسم الصحافة أن الخبر ليس أن يعض الكلب رجلًا، بل ان يعض الرجل كلبًا. ظل هذا الدرس حاضرًا في ذهني كلما راقبت كيف تحوّل عالمنا إلى «قرية صغيرة» كما يقول عالم الاتصال مارشال ماكلوهن. ففي الوقت الذي أصبحنا نعرف فيه الخبر في لحظة وقوعه، بات التضارب في الأنباء واضحًا وضوح الشمس، إلى درجة تُحيِّر المرء في التفريق بين الحقيقة والزيف. ففي قناة تُعلن وفاة أشخاص، وفي أخرى يظهرون أحياء. وآخر مثال على هذا التضارب كان الأخبار التي تداولت مقتل قادة حماس في قطر.
مع تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، أدركت أن ما يكسب الصحفي المصداقية وثقة المشاهدين هو أن يكون الأصدق لا الأسرع، خصوصًا عند تغطية الصراعات التي يسعى فيها كل طرف إلى الترويج للسردية التي تخدم مصالحه. ونتفق أن خبر قصف إسرائيل لقطر ليس بالمستغرب الذي يجعله حدثًا استثنائيًا؛ فخيانة العهود والدموية باتت عند الإسرائيليين عرفًا سائدًا لا يفاجئنا في كل مرة يرتكبون فيها عدوانًا جديدًا.
أزمة فقدان المصداقية في وسائل الإعلام أصبحت ظاهرة منتشرة. فقد أظهر تقرير حديث لمعهد رويترز أن 58 % من الأفراد عالميًا قلقون من عدم القدرة على التمييز بين الأخبار الحقيقية والمزيّفة، بينما تبدو أزمة الثقة أكثر عمقًا في الولايات المتحدة، حيث لا يتجاوز من يثقون بأن الإعلام ينقل الأخبار «بشكل كامل ودقيق وعادل» 31 % فقط، وهو أدنى مستوى منذ عقود. هذه الأرقام تكشف أن أزمة الثقة لم تعد محلية، بل غدت أزمة عالمية تهدد جوهر دور الإعلام.
هنا تبرز أهمية نظرية المسؤولية الاجتماعية للإعلام، التي تجعل المصداقية والشفافية والمساءلة في صميم الوظيفة الإعلامية. فما يريده الجمهور اليوم ليس سباقًا على العناوين، بل صحافة تحقق وتفسّر وتُسائل، بدل أن تُعيد نشر الشائعات أو «الترند» كما يُقال.
القنوات الإعلامية بحاجة إلى تبنّي ثقافة مهنية جديدة، ومن أبرز أدواتها ما يمكن تسميته بـ «التدقيق الثلاثي للمصادر»، أي ألّا يُنشر الخبر إلا بعد التأكد عبر ثلاث طبقات مستقلة: مصدر مباشر كشاهد عيان، مصدر ثانٍ مستقل كوكالة أو منظمة دولية، ثم تحقق داخلي من السياق الزمني والمعلومات السابقة لتفادي أي تناقض. ولعل المثل الإعلامي الشهير يلخص ذلك: «إذا أخبرتك والدتك أنها تحبك، تحقق من هذا مرتين».
اعتماد هذا الأسلوب في قنواتنا الإعلامية يضمن أن المعلومة لا تمر عبر قناة واحدة فقط، بل عبر شبكة تحقق متقاطعة تجعل الصدق أثمن من السبق. والجمع بين هذه المنهجية وبين التصحيح العلني للأخطاء، والفصل الصارم بين الخبر والرأي، والتقليل من «العواجل» لصالح موجزات موثوقة في أوقات محددة، مع وضع إشارات واضحة عندما تكون المعلومة غير مؤكدة، هو الطريق العملي لاستعادة الثقة المفقودة، وتحويل الإعلام من مصدر إرباك للمشاهدين إلى مصدر وعي ونقل حقائق.
خالص التعازي لقطر في كل ما مسَّ أمنها وسلام مواطنيها. لكنني أذكّر أن هذا العدوان لن يكون الأخير للأسف، فهذا هو عهد إسرائيل في نقض المواثيق. علينا أن نتعلم الدرس ونُرسِّخ في إعلامنا قاعدة بسيطة: الصدق قبل السبق، والتحقق قبل العنوان، والتعامل مع هذه الأخبار كوقائع متكررة تستدعي مهنية باردة، لا كصدمات تُدار بنفس طريقة تداول أن رجلًا عض كلبًا.