د. سامي بن عبدالله الدبيخي
استعرضت «مجلة الإيكونيميست» في عددها بتاريخ 4 سبتمبر 2025، مقالا عن دور المخططين الحضريين في صياغة مستقبل المدن الصينية في ظل التحديات العالمية، مثل التغير المناخي والنمو السكاني والتوسع العمراني السريع، ولمواجهة هذه التحديات أخذ المخططون الحضريون على عاتقهم لعب دور محوري في إعادة صياغة مستقبل المدن الصينية، وذلك بالتركيز على تحويل المدن إلى أماكن أكثر أنسنة وقابلية للعيش، وأكثر جمالاً وتحضرًا ومرونة وذكاءً.
يأتي هذا النهج كرد فعل على عقود من التوسع العمراني السريع صبت فيه الصين كميات هائلة من الخرسانة، تفوق ما استخدمته أمريكا في القرن العشرين بأكمله، مما أدى إلى مشاكل التوسع الحضري العشوائي وكل أنواع التلوث والازدحام المروري.
إلا أنه مع تضخم هذه الفقاعة العمرانية وانهيار سوق العقارات وإفلاس كبريات شركات القطاع مثل إيفرغراند Evergrand، يسعى المخططون إلى تطوير نموذج مستدام يعزز الابتكار والاستهلاك.
أقرت السلطات الصينية في أواخر شهر أغسطس المنصرم، خطة طموحة تهدف إلى بناء مدن «حديثة للشعب» بحلول 2035، مع التركيز على المنازل الخضراء والذكية، ورعاية كبار السن،وفيها يعتمد المخططون على «تجمعات المدن city-clusters»، وهي مجموعات مترابطة من مدن كبيرة وصغيرة مرتبطة بسكك حديدية عالية السرعة.
على سبيل المثال، منطقة الخليج الكبرى The Greater Bay Area (GBA) في دلتا نهر اللؤلؤ Pearl River Delta تضم 86 مليون شخص في مدن مثل شنزن وغوانزو وهونغ كونغ Guangzhou, Shenzhen and Hong Kong، حيث تمتد مسارات المترو لمئات الكيلومترات، مما يعزز الإنتاجية والابتكار كما حدث في الثورة الصناعية البريطانية.
لجعل المدن أكثر أنسنة، يركز المخططون على تحسين الخدمات للمهاجرين الريفيين، مع إصلاح نظام الهوكو hukou السكني الذي يحد من الوصول إلى التعليم والرعاية لتقليص النزوح الريفي. كما يشجعون الاستهلاك من خلال تسهيل السكن الميسور.
أما الجمال والحضارة، فيتمثلان في منع التوسع العشوائي وترقية المباني القائمة، مع حد من ناطحات السحاب الفاخرة وتشجيع التصاميم الخضراء.
بالنسبة للمرونة، يواجه المخططون تحديات المناخ مثل الجفاف في بكين والفيضانات في الجنوب، ببناء جدران بحرية و»إسفنجة spongify» المدن عبر الحدائق والأراضي الرطبة لامتصاص الأمطار، حيث تخسر الصين 1 % من ناتجها الإجمالي GDP سنوياً بسبب الفيضانات. أما تطوير المدن الذكية، فيعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، كما في «دماغ المدينة city brain» في هانغتشو، الذي يحلل بيانات الكاميرات والإشارات لتقليل الازدحام والتلوث، بدعم من شركات التكنولوجيا.
إلا أن هذا التطور السريع دونه مشاكل وتحديات لعل أهمها ما يُثار من مخاوف كتهديد الخصوصية بسبب تعزيز المراقبة الشديدة، وتحديات التمويل الضخمة، إذ يقدر إصلاح البنية التحتية بـ4 تريليونات يوان (560 مليار دولار) في خمس سنوات، مع الحاجة إلى مصادر دخل جديدة بعد تراجع بيع الأراضي. يمثل مشروع شيونغآن، «مدينة المستقبل»، اختباراً رغم إنفاق 835 مليار يوان دون تحقيق الابتكار الكامل بعد.
في النهاية، يشكل المخططون الحضريون في الصين نموذجاً عالمياً لمستقبل الحياة المدنية والتطوير الحضري المستدام من خلال التركيز على التجمعات المترابطة والتقنيات الذكية والاستدامة، مع الحفاظ على التوازن بين التنمية والمراقبة والسيطرة. إذا قُدر لهذا النموذج النجاح، فستكون مدن الصين أكثر أنسنة وكفاءة مما يؤثر على شكل المدن العالمية ومستقبل الحياة المدنية فيها.