د.عبدالله بن موسى الطاير
منذ عام 2000م، وأنا أتابع الشأن الأمريكي عن قرب، ومع ذلك فهي ليست مدة كافية لإصدار حكم على ما إذا كانت حدة الانقسام الحالية قد بلغت شأواً لم تبلغه منذ ما بعد الحرب الأهلية (1861 - 1865م). بعض الباحثين يعتقدون أن الانقسام الذي بلغ أوجه يشبه ما كانت عليه أمريكا عشية اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية، والأسباب الأربعة التي أدت إلى اندلاع الحرب والمتمثلة في العنصرية (العبودية)، وحقوق الولايات، والنزاعات الاقتصادية، وانتخاب أبراهام لنكولن المناصر لتحرير العبيد، والذي عارضت انتخابه الولايات الجنوبية، ماثلة بلون مختلف اليوم.
شهدت أمريكا بعد الحرب الأهلية ألواناً متباينة من الانقسام العميق، إذ تميّز عصر إعادة الإعمار (1865 - 1877م) بالإرهاب العنصري الذي مارسته جماعة كو كلوكس كلان، والانتخابات المُتنازع عليها، بينما شهد العصر الذهبي (1870 - 1910م) صراعات طبقية، واغتيالاتٍ سياسية، وفساد ازدهر في ظلّ التمايز الاقتصادي. أما في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فإن حركة الحقوق المدنية وحرب فيتنام أطلقت العنان لأعمال شغب وتفجيرات واغتيالات، وسط معارك ثقافية قوضت الثقة المؤسسية والتعددية السياسية. غير أن الآية اليوم شبه معكوسة، فمارتن لوثر كينغ الابن، المدافع حقوق السود تم اغتياله عام 1968م، وبعد سبع وخمسين سنة، اغتيل تشارلي كيرك، المدافع عن حقوق المسيحيين البيض.
أمريكا، على غير المفترض، بلد تحكمه نظرية المؤامرة من كوفيد-19، إلى اللقاحات، مروراً بمؤامرة الإسلام على الهوية المسيحية لأمريكا، وليس انتهاء بما غرد به الرئيس الأمريكي عن المؤامرة الصينية - الروسية - الكورية الشمالية ضد بلاده. تعتمد خطابات الرئيس، وكتابات وزير دفاعه، والناشطين الداعمين لهذا التيار، مثل إيلون ماسك، وتشارلي كيرك، وأليكس جونز، وتاكر كارلسون، على نظرية المؤامرة لتشكيل قاعدةً شعبيةً لتمكين المسيحية السياسية. ومن المرات النادرة التي يسجل التاريخ فيها أن رئيس دولة يحرض مكونات بلده على بعضها البعض لدوافع سياسية وأيديولوجية.
الاستقطاب اليوم، وإن كان أقل عنفًا ودموية عنه قبيل الحرب الأهلية الأمريكية، فإنه الأشد خطورة؛ الجمهوريون والديمقراطيون يحقدون على بعضهم على نحو غير مسبوق، والثقة في الحكومة الفيدرالية الحالية انحدرت إلى أدنى مستوياتها في تاريخ أمريكا المعاصر، والقدرة على احتواء الخطاب الإعلامي من خلال السيطرة على رواية شبكات الإعلام التقليدي شبه معطلة في عصر شبكات التواصل الاجتماعي. يفاقم صعود المسيحية السياسية حالة الانقسام الحزبي والأيديولوجي عام 2025م، حيث تدمج الحماسة الإنجيلية بالسياسات القومية، مما يفاقم الانشقاقات ويزيدها خطورة.
كشف استطلاع رأي أجري عام 2025م أن 10 % من الأمريكيين (الجمهوريين) من أشد أتباع المسيحية السياسية، وأن 20 % منهم متعاطفون معها. تعمل المسيحية السياسية على إعادة تعريف أمريكا كأمة مسيحية بيضاء العرق، وتطالب بسياسات تُميّز المواطنين دينياً، وهي مع إقصاء أي دين أو ثقافة لا تنسجم مع روح وتقاليد الثقافة المسيحية.
يُعزى هذا الصعود المتسارع للمسيحية السياسية إلى شخصيات مثل الرئيس الحالي، الذي يستدعي في خطابه التفويض الإلهي، ويعتمد على مبادرات مثل مشروع 2025 الهادف إلى تعزيز النظام القومي المسيحي، وتفكيك المؤسسات العلمانية، وتبوؤ المسيحيين «جميع مناصب السلطة»، يعكس هذا التوجه دوافع ثيوقراطية، في مجتمع علماني متنوع، مما يُؤجج مشاعر عدائية، ويولد ردود فعل عنيفة من العلمانيين واليساريين والأقليات في الطرف المقابل.
تعتمد المسيحية السياسية، مثلها مثل الإسلام السياسي واليهودية السياسية على الاستقطاب الحاد، وإلغاء المختلف، مما يُعمّق الهوة بين مكونات المجتمع الواحد ويهدد السلم الاجتماعي. وأتباع المسيحية السياسية يصورون الصراعات السياسة المعاصرة، كالحرب الصهيونية على غزة، على أنها حروب مقدسة. لنأخذ مثلاً جلياً وزير الدفاع الأمريكي الحالي، فهو معجب أشد الأعجاب بالحروب الصليبية ويراها دفاعاً عن الحرية الغربية، كما أنه يستدعي العقيدة المسيحية في تصفية الخلافات والحد من انتشار الإسلام، ويقارن الصراعات المعاصرة بالحروب الصليبية، معتبرًا أنها دفاعية ضد توسع الإسلام الذي يراه مهدداً خارجياً للحضارة الغربية.
على عكس الانقسامات السابقة التي ضربت المجتمع الأمريكي ووجدت حلولاً لرأب التصدعات من خلال الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية، وإحكام السيطرة على الرواية التي تعزز التوافق والتوازن، يُهدد التوجه الحالي بتقويض الفصل بين الكنيسة والدولة، وهو أساس الديمقراطية الأمريكية. وإذا نجحت المحاولات الجارية في تجنيد الشباب الأمريكيين في هذا التيار المسيحي السياسي، ولا أظنها إلا ناجحة، فعلى العالم أن يستعد لحروب صليبية نووية هذه المرة.