عبدالرحمن بن فايز الكلثمي
في مطلع عام 1951م اتفق جمعٌ من أساتذة جامعة القاهرة على التوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وأثناء تأهبهم للرحلة صادف أن زار القاهرة حينها الأمير الشاب فيصل بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- فالتقى ببعض أعضاء الرحلة من الأستاذة والأدباء، وكان فيهم الأديب أمين الخولي -رحمه الله- فرحب الأمير بهم واستضاف رحلتهم تحت رعايته، وفي صباح يوم الأحد الرابع من فبراير 1951م، حملتهم الطائرة إلى مطار المدينة المنورة، وبعد أداء العمرة قرَّر الوفد البقاء لفترة أطول والتجول في أنحاء المملكة فجابوها شرقاً وغرباً، التقوا فيها بالأعيان والأدباء، وفي الرياض كان لقاؤهم بالملك عبدالعزيز -رحمه الله- وقد وثَّقت هذه الرحلة الأديبة المصرية عائشة بنت الشاطئ -رحمها الله- في كتاب بعنوان (أرض المعجزات) وكان مما قالت بعد الرحلة: «عدنا إلى مصر نحمل أجمل ذكرى لأطيب رحلة وأكرم ضيافة، ومضت أيام وليال ومشاهد الرحلة تتراءى لي من بعيد، فتغريني بأن أحدث قومي عن أرض المعجزات: مهد العربية، لسان إنسانيتنا الناطقة، ومبعث الإسلام، الذي أخرج الدنيا من الظلمات إلى النور، ووجَّه تاريخ العالم وقرَّر مصاير دول وشعوب وحضارات وديانات وأنار للبشرية دياجر عصورها الوسطى.. واليوم تكشف الصحراء عن سرها المطوي تحت كثبان الرمال، وتدفع الزيت دافقاً كالدم الحار في شرايين العصر، فتشارك في تقرير المصير لعالم اليوم، وتتجلى في صحرائها آية العلم من سورة الوحي الأولى: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
لكن الزمن، وهو أبرع الشعراء وأدهى البنّائين، أضاف إلى تلك الصفحة البيضاء فصولًا جديدة. فالأرض التي كانت تُعرف بمعجزة الرسالة، باتت تُعرف أيضًا بمعجزة الإرادة. فهي «أرض المعجزات» الخالدة، لكن معجزتها اليوم في قدرتها على أن تعيد خلق ذاتها، وأن تتوهج من جديد بلغة العصر، بلغة الاقتصاد والابتكار والمعرفة.
من يطأ هذه الأرض اليوم، لا يرى فقط كثبان الرمال التي تخفي أسرار الزمن، بل يرى صروحًا وجسورًا تمتد كالأحلام، ومدنًا تنمو بين البحر والجبل وكأنها وُلدت من رحم المستقبل. يرى صندوقًا سياديًا تجاوزت أصوله ثلاثة تريليونات ريال، يستثمر في الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي كما لو كان يزرع بذورًا للغد.
يرى طرقًا صارت الرابعة عالميًا في جودتها، وسوقًا تقنيًا نما حتى غدا الأكبر في المنطقة، يعجّ بالشباب المبدع والشركات الناشئة، وكأن الصحراء نفسها تحولت إلى مختبر للعلم والتجربة.
وفي السياحة، انفتحت الأبواب مشرعةً للعالم. من جازان إلى نيوم، من الأحساء إلى البحر الأحمر، تكتب المملكة قصتها الجديدة بلغة الجمال والانفتاح، حتى صارت الأولى عالميًا في نمو إيرادات السياحة، والثالثة في أعداد السياح الدوليين. كأنها تقول للعالم: هذه الأرض التي أنجبت حضارة الروح، قادرة أن تُنبت حضارة الجمال والحياة.
إن رؤية 2030 ليست وثيقة اقتصادية باردة، بل قصيدة كبرى تُكتب بمداد الطموح. رؤية تجعل من كل إنجاز سطرًا، ومن كل مشروع بيتًا شعريًا، ومن كل شاب وشابة قافيةً جديدة في ملحمة وطنية. إنها رؤية تعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والأرض، بين الماضي والمستقبل، بين التراث والابتكار.
المملكة اليوم ليست فقط ما وصفته بنت الشاطئ في خمسينيات القرن الماضي، بل هي امتدادٌ لتلك المعجزة، ووجهٌ جديد لها. معجزة تقول إن التاريخ ليس جدارًا من الماضي، بل نهرٌ يواصل جريانه. وإن الأمة التي أنارت العالم يومًا بالوحي، قادرة أن تضيء يومه بالمعرفة وغده بالابتكار.
إنها السعودية أرض المعجزات: أن تكون أرضًا تجمع بين سكينة الوحي وصخب الأسواق، بين خشوع المناسك وضجيج الموانئ، بين الصحراء التي تُصغي للنجوم، والمدن التي تتحدث بلغة الذكاء الاصطناعي. معجزة أن تُظلّلها قبة السماء ذاتها التي عرفت فجر الرسالة، لكنها اليوم تتلألأ بنجوم من نوع آخر: نجوم الطموح والإنجاز.