د. سطام بن عبدالله آل سعد
مع تماهِي مفاهيم الاقتصاد والاستهلاك اليوم، غدا الغِنى مؤشرًا للتكديس أكثر منه لجودة العيش؛ ومن ثمّ تبرز مقولةٌ دالّة: «ليس الغني من كثرة ماله، بل الغني من قلة استهلاكه». هذه المقولة التي قد تبدو لأول وهلة امتدادًا لثقافة الزهد أو التصوف، تحمل في جوهرها دلالات اقتصادية وتنموية واستدامية تستحق الوقوف عندها والتأمل في عمقها، ولا سيما في ظل التحديات التي يعيشها العالم المعاصر، من أزمات بيئية إلى اختلالات اجتماعية وغياب العدالة في توزيع الموارد.
والغنى، في تعريفه السائد، غالبًا ما يرتبط بالامتلاك المفرط والقدرة على الشراء والاستهلاك دون حدود. هذا النموذج السائد للثراء هو نتاج عقود من ترسيخ النمط الرأسمالي في الاقتصاد العالمي، الذي يقيس النجاح الاقتصادي على أساس حجم الناتج المحلي ومعدل الإنفاق الفردي، ويغذّي سياسات النمو القائم على الاستهلاك كقوة دافعة للناتج. غير أن هذا التصور بدأ يتعرض لتحديات جوهرية، ليس فقط بسبب محدودية الموارد الطبيعية التي تهدد استدامة الكوكب، ولكن أيضًا بسبب الإشكاليات الاجتماعية التي يولدها، من الفجوات الطبقية إلى الأزمات النفسية التي تعصف بمجتمعات تمتلك كل شيء إلا التوازن الداخلي.
من هذا المنطلق، تصبح قلة الاستهلاك خيارًا أخلاقيًا واقتصاديًا في آنٍ معًا. قلة الاستهلاك لا تعني الفقر، ولا تدل على الحرمان، بل تعكس وعيًا عميقًا بحدود الحاجة الإنسانية، وتحررًا من منطق التملك كغاية في حد ذاته. إنها تعني إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والمادة، بين الفرد والموارد، بين الاقتصاد والحياة. فالاستهلاك الواعي هو أحد أركان التنمية المستدامة، إذ إنه يقلل من الضغط على الموارد، ويخفف من الانبعاثات البيئية، ويعيد التوازن إلى السلوك الاقتصادي، ويجعل من الإنسان فاعلًا في صناعة المستقبل بدلًا من كونه مجرد ترس في ماكينة السوق.
تنبع أهمية هذه الفلسفة من كونها تتحدى نمطًا اقتصاديًا رسخته العولمة، حيث يتم تصدير صورة مثالية للغني بوصفه من يعيش في بحبوحة لا تنتهي من الإنفاق والترف. وفي المقابل، تعيد قلة الاستهلاك الاعتبار إلى الكفاءة، وتحفّز الابتكار في استخدام الموارد، وتشجع على إعادة التدوير، وترسي مبدأ الاقتصاد الدائري الذي بات ضرورة عالمية. والدول التي تسير في طريق الاستدامة تدرك أن النمو الحقيقي لا يقاس فقط بكمّ السلع المستهلكة، إنمّا بقدرتها على الاستمرار دون الإضرار بالبيئة أو سحق الطبقات الفقيرة.
وحين نعيد تعريف الغنى من زاوية قلة الاستهلاك، فإننا لا نلغي مفهوم التملك أو ننكر حاجات الإنسان الطبيعية، بل نضع هذه الحاجات في إطار أخلاقي عقلاني. فالغني إذًا هو من يملك السيطرة على رغباته، ويعرف حدود احتياجاته، ويوازن بين المادي والمعنوي، ويُدرك أن الزيادة في الأشياء لا تعني بالضرورة الزيادة في السعادة. كثير من الأبحاث النفسية والاقتصادية الحديثة أثبتت أن الرفاه الحقيقي يرتبط أكثر بالإحساس بالمعنى، وبالعلاقات الاجتماعية الجيدة، وبالاستقرار النفسي، لا بعدد السيارات أو فخامة المنازل. هذه المقولة العميقة تفتح أمامنا بابًا لمراجعة شاملة للمفاهيم التي حكمت مسار التنمية لعقود. ففي حين ركزت معظم النظريات الاقتصادية على الإنتاج والاستهلاك كقيمتيْن جوهريتيْن، فإن الاستدامة تدعونا إلى إعادة التفكير في هاتين القيمتين. فالهدف من الإنتاج هو إشباع متوازن للحاجات يراعي قدرة الكوكب على التجدد، وليس التكديس السلعي. والاستهلاك لا يجب أن يكون معيارًا للنجاح، بل مرآة للوعي، يحدد الإنسان من خلاله ما يحتاجه فعلًا، وما يمكنه الاستغناء عنه لصالح حياة أكثر توازنًا وهدوءًا وارتباطًا بالطبيعة والمجتمع.
إن المملكة، عبر رؤيتها الطموحة 2030، وضعت الاستدامة في صميم برامجها التنموية. وهذا يتطلب إعادة صياغة للسلوك الاقتصادي والاجتماعي للمواطن، تبدأ من إدراك الفرد أن قلة استهلاكه هي مساهمة مباشرة في الحفاظ على الموارد، ودعم الاقتصاد الوطني، وتحقيق العدالة بين الأجيال. فكما أن هدر المال يضر بالمستقبل المالي للفرد، فإن الهدر الجماعي في الموارد يهدد المستقبل التنموي للأمة. لذلك فإننا بحاجة إلى ترسيخ مفهوم الغنى المستدام، حيث يكون المواطن غنيًا بكفاءته، بوعيه، بحسن استخدامه لما لديه، لا بمجرد امتلاك أشياء أكثر مما يحتاج.
إنّ الاستدامة قبل أن تكون سياسات حكومية أو أهداف دولية، هي في جوهرها ثقافة فردية تبدأ من فهم الإنسان لنفسه، ولاحتياجاته، ولدوره في هذا العالم. وعندما نُعيد الاعتبار لقيمة التقليل، ونزرع في وعينا أن الغنى الحقيقي هو التحرر من عبودية السلعة، نكون قد خطونا خطوة فارقة نحو اقتصاد أكثر إنسانية، وتنمية أكثر عدالة، ومستقبل أكثر بقاءً.
ففي زمن تعيش فيه المجتمعات تحت وطأة الاستهلاك، يكون أعظم الغنى هو أن تكتفي، وأن تعيش بقناعة، وأن تصنع من القليل معنى لا تصنعه الكثرة.