د. علي السويد
لا يعتبر الخذلان حادثة شعورية عابرة، بل هو ضربٌ من التجربة الوجودية التي تضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع فراغ المعنى. إنه الصدع الذي ينكشف فيه التباين بين ما نرسمه في وعينا من صورٍ عن الآخر، وبين الحقيقة الصلبة التي تفرضها الوقائع. وكما قال هيغل: «الوعي لا يتطور إلا عبر صدامه بنقيضه»، فإن الخذلان هو ذاك النقيض الذي يوقظ وعينا من سذاجة الثقة المطلقة.
هو تجربة هوسرلية بامتياز، تعليقٌ قسري للإيمان بالآخر، يقودنا إلى رد الظواهر إلى أصلها، فنكتشف أن كثيرًا من علاقاتنا لم تكن سوى بناءات قصدية بلا جوهر. في لحظة الخذلان، نمارس شكًّا ديكارتيًا مضطرًا، حيث كل ما ظننّاه يقينًا يُعاد إلى دائرة السؤال.
ولعلّ شوبنهاور كان أكثر من عبَّر عن هذه الحقيقة حين رأى أن الإنسان محكوم بإرادة عمياء، وأن خيباتنا ليست سوى أثر من آثارها. فالخذلان يفضح عبث الإرادة البشرية، ويذكّرنا بأننا لم لسنا في طمأنينةٍ دائمة، بل في رحلةٍ ممهورة بالصراع.
أمّا نيتشه، فكان يرى أن الانكسارات لا تُميت، بل تُخصب: «كل ما لا يقتلني يقوّيني». غير أنّ قوّة الخذلان ليست في قسوته فقط، بل في ما يخلّفه من وعيٍ تراجيدي يقرّبنا من فهم ماهية الحياة. فالإنسان، حين يتذوّق مرارة الطعن من حيث أمن، يكتشف أنّ إرادة القوة لا تتحقق إلا بالتحرّر من انتظار الآخر، وبإعادة بناء الذات على صخرةٍ لا تنكسر.
الخذلان إذن هو لحظة هايدغرية بامتياز، انكشافٌ للوجود في صورته العارية، حيث يسقط «الهمّ» اليومي عن قناعه، ويُدفع الإنسان إلى مواجهة أصالته. وعليه، فالخذلان ليس نهايةً، بل بداية. إنّه نداء أنطولوجي يحرّرنا من سجون الوهم، ويدفعنا نحو بناء علاقة أكثر صلابة مع ذواتنا، ومع الحقيقة الكونية. إنّه، بتعبير كامو، لحظة عبثٍ تفضي إما إلى الانتحار الروحي، أو إلى التمرد الخلاَّق الذي يصوغ معنى جديدًا من العدم.
وهكذا، تبقى تراتيل الخذلان لا كصدى للألم فحسب، بل كمعزوفة فلسفية تكشف أن الإنسان لا يكتمل إلا حين يجرّب سقوط المعنى، ليعيد خلقه بيديه، أكثر صفاءً وصلابةً ونضجًا.
تراتيل الخذلان إذن ليست نشيد الحزن، بل صرخة الولادة، أن نحمل رماد الخيبة بين أيدينا، وننفخ فيه حتى يشتعل، لا ليحرقنا، بل ليضيء لنا الطريق إلى الأعالي.