د. محمد بن أحمد غروي
تحوّل الذكاء الاصطناعي في شرق آسيا إلى رافعة إستراتيجية لإعادة تشكيل النظم التعليمية من جذورها، فمن اليابان وكوريا الجنوبية إلى الصين وماليزيا وإندونيسيا، تتسابق الحكومات في استثمار هذه التقنية لتجاوز التحديات البنيوية، مثل نقص المعلمين أو ضعف البنية التحتية، ولإعادة صياغة العلاقة بين الطالب والمعرفة في عصر رقمي سريع التحوّل.
أعلنت الحكومة اليابانية أخيرًا عن خطة لدمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في برامج تعليم اللغة اليابانية للأطفال من أصول أجنبية، ضمن ميزانية عام 2026، وتكشف هذه الخطوة عن توظيف التقنية كحلّ عملي لمعضلة النقص في الكادر التعليمي، حيث تشير بيانات وكالة «كيودو» إلى أن قرابة 10 % من الطلاب المسجلين لا يتلقون دعمًا لغويًا كافيًا. الرهان الياباني على الذكاء الاصطناعي يمتد إلى تخصيص المناهج بما يتلاءم مع القدرات الفردية للطلاب، وهو مسار يترجم فلسفة التعليم الياباني القائمة على الدمج الاجتماعي وتحقيق تكافؤ الفرص. في فبراير 2023، كشفت وزارة التعليم الكورية عن خطتها الطموحة لدمج الذكاء الاصطناعي في التعليم العام، عبر تطوير كتب مدرسية رقمية ذكية، ومنذ مارس 2025، بدأ تعميم هذه الكتب على مستوى وطني لتشمل مواد الرياضيات واللغة الكورية والإنجليزية والتربية الخاصة، وتستخدم هذه الكتب خوارزميات تحليل آنية لتخصيص المادة التعليمية وفق سرعة استيعاب الطالب، وتزويد المعلمين بتغذية راجعة مستمرة، وبهذا أصبحت كوريا الجنوبية أول دولة في العالم تنقل تجربة الكتب المدرسية إلى مستوى تفاعلي قائم على الذكاء الاصطناعي، ما يعكس نقلة نوعية.
تتجه الصين أيضًا نحو إدراج الذكاء الاصطناعي بشكل منهجي في المناهج الدراسية بالمدارس الابتدائية والثانوية، بوصفه أداة لتشكيل جيل قادر على تلبية احتياجات المستقبل الصناعي والتقني، فوزارة التعليم الصينية أوصت بأن يصبح الذكاء الاصطناعي معيارًا في تقييم المدارس، بحيث يكتسب الطلاب في الصفوف الدنيا أساسيات التعامل معه، بينما يتعلم طلاب المراحل العليا التطبيقات العملية، وهنا يظهر الذكاء الاصطناعي كمهارة وطنية إستراتيجية لبناء قوة بشرية ابتكارية.
في ماليزيا، يأخذ الذكاء الاصطناعي مسارًا مختلفًا، إذ يوظَّف لتعزيز تعليم القرآن الكريم وربطه بالمهارات التقنية، وأطلقت الحكومة منصة «Nur.AI»، أول منصة ذكاء اصطناعي متوافقة مع الشريعة الإسلامية، تُقدّم محتوى تعليميًا وإرشاديًا متماهيًا مع القيم الإسلامية. إلى جانب ذلك، يجري إدماج الذكاء الاصطناعي في برامج مدارس التحفيظ عبر التدريب المهني وريادة الأعمال، وتجمع التجربة الماليزية بين الحفاظ على الهوية الدينية ومواكبة الثورة الرقمية، بما يهيئ ماليزيا للتموضع كمركز رقمي للعالم الإسلامي. ويمتد الأمر إلى إندونيسيا التي تسعى حكومتها إلى إدراج الذكاء الاصطناعي والبرمجة في المناهج الدراسية كجزء من خطتها للوصول إلى «العصر الذهبي» بحلول الذكرى المئوية لتأسيس الدولة عام 2045، غير أن ضعف التجهيزات التقنية يشكّل عائقًا حقيقيًا أمام التنفيذ السريع، ومع ذلك، تعكس هذه المبادرة رغبة واضحة في تحويل التعليم إلى أداة لبناء رأس مال بشري قادر على المنافسة في الاقتصاد العالمي. تجارب اليابان وكوريا والصين وماليزيا وإندونيسيا تكشف عن قاسم مشترك، وهو أن التعليم ما قبل الجامعي لم يعد يُبنى فقط على الكتاب والمعلم، بل أصبح يقوم على شراكة مع الذكاء الاصطناعي بوصفه «المعلم الثالث»، ويمنح هذا التحوّل الطلاب فرصًا أكثر تخصيصًا وتنوعًا في طرق التعلم، ويتيح للمعلمين توجيه طاقتهم نحو بناء التفكير النقدي بدلًا من الاقتصار على التلقين، كما يبرز بعد آخر لا يقل أهمية، وهو أن استثمار الذكاء الاصطناعي في تعزيز القيم والهويات الوطنية والدينية، مثلما هو الحال في التجربة الماليزية، مما يُظهر أن التقنية ليست محايدة بالكامل، بل يمكن تشكيلها وفق فلسفة المجتمع.
تقديرات عالمية تشير إلى أن حجم سوق الذكاء الاصطناعي في التعليم سيصل إلى نحو 32 مليار دولار أمريكي بحلول 2030، بمعدل نمو سنوي يقارب 30 %، وأظهر استطلاع حديث لشركة مايكروسوفت أن 47 % من قادة التعليم يستخدمون الذكاء الاصطناعي يوميًا، فيما استخدمه 68 % من المعلمين و62 % من الطلاب مرة واحدة على الأقل، ويثبت هذا التوجه أن مستقبل التعليم لن يُبنى بمعزل عن الذكاء الاصطناعي، بل سيكون مرهونًا بقدرة الدول على صياغة نماذج تعليمية تُوازن بين الطموح التقني والقيم الإنسانية، بين الكفاءة الأكاديمية وحماية الهويات الثقافية.