منال الحصيني
الشرود الذهني هو ما يقال عنه «الهجرة العقلية» يجتاح الإنسان في كثير من الأحيان، فالدماغ مبرمج جزئياً على الشرود الذهني حينما لا يكون منغمساً في مهمة محددة تستدعي التركيز
ليست بالضرورة أن تكون ضعفاً أو هروباً؛ فكثيراً ما تكون آلية بقاء وربما شرارة إبداع فكم من مفكر هاجر بعقله قبل قلمه وكم من عالم استوطن بفكرته شارد الذهن بها لسنوات قبل أن تتحقق على أرض الواقع.
لكن الشرود الذهني قد يتحول إلى منفى داخلي حينما نطيل المكوث فيه فربما بقي العقل في مكان لاوجود له فنضيع الحاضر ونهمل تفاصيل الحياة التي تصنع المستقبل، ربما يكون انعدام التنوع في الحياة اليومية كالملل والرتابة تدفع العقل إلى الترحال نحو أماكن أكثر إثارة وخلق سيناريوهات من نسج الخيال لم تحدث بعد ولعل الكثير يميل للهروب من الواقع جراء الضغط النفسي والقلق بحثاً عن مسافة أمنة ومحاولة دفاعية للتخفيف من ذلك.
لكن ليست دائما هي المعاناة هي من يحرك العقل وتدفعه للهجرة؛ فالشغف والطموح والرغبة في حياة مختلفة أكثر جودة تجعل الإنسان يجد نفسه يعيش في ذلك المستقبل الخيالي قبل عيشه فعلياً، وللعقول التي ترفض السكون لتبني عوالم لم توجد بعد تصبح تلك الهجرة نواة إبداع.
لكن ماذا عن «الهجرة العقلية» في وقتنا الحاضر التي غيبت عقول النشء بـ(الإفراط في التكنو لوجيا) واستخدام الهواتف الذكية وتدفق الإشعارات التي تجعل الانتباه متجزأً ومبعثراً والعقل في حالة هروب إلى أماكن أخرى تعويضاً منه لهذا التشتت، ماذا عن تصفح المقاطع القصيرة التي خلقت عقلاً إعتاد على القفز والاختصار من فكرة لأخرى دون فهم وتركيز.
فمجتمعنا يكتظ بالبشر وأصواتهم تحيط بنا في كل مكان لكننا نشعر بالوحدة أعمق من أي وقت مضى، نضحك في محادثات افتراضية لكن سرعان ما نعود لنواجه فراغ المكان، نشارك يومياتنا للكثير من الناس لكن قل منهم من يشعر بوجعنا الحقيقي.
(العزلة الرقمية) فراغ لا يملأه حضور افتراضي من الآخرين لذلك يلجأ العقل إلى «الهجرة العقلية» ليخلق له عوالم بديلة يعيش معها للحظات لكنها ليست حلاً جذرياً فربما تزيد من حدة الشرود الذهني ما أن يستفيق الإنسان منها ليجد نفسه محاطا بوجوه افتراضية لكنها بلا دفء حقيقي.
«الهجرة العقلية» ظاهرة إنسانية طبيعية ربما تكون طاقة كامنة وبذرة إبداع إن أحسنا استخدامها وسقيناها بوعي، الشرود الذهني لا يمكن إيقافه لكن يجب أن نتعلم كيف نزور عوالمه دون أن يسكن فينا وكيف نحوله من منفى إلى وطن يعيدنا أقوى وأكثر إبداعاً في واقعنا.