صالح الشادي
منذ فجر التاريخ، لم يتغير جوهر الإنسان. ما زال ذلك الكائن الذي تحركه غريزة فضول لا تشبع، وحب للمعرفة لا يعرف الحدود، وخوف من المجهول يدفعه أحيانًا إلى الهلع. لطالما كان مستكشفًا، باحثًا، راغبًا في اختراق الحجب ليعرف ما وراء الأفق.
لقد تغيرت الأدوات من حوله بشكل مذهل، من النار إلى العجلة، إلى أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، لكن القلب النابض بداخله، ذلك المحرك من الغرائز والمشاعر، بقي كما هو.
لطالما سعت هذه الفطرة الثابتة إلى ابتكار أدواتها؛ ففي الماضي، كانت الأخبار تسير على قدمي الرواة، أو ظهر الجواسيس، أو في أمتعة المسافرين. كانت قصصًا تروى، أخبارًا تنتقل ببطء، لكنها كانت ثمينة لأنها نادرة، ثم اخترعنا الطباعة، فانفجر العالم من حولنا. انتقلت المعرفة من دائرة النخبة إلى العامة، وأصبح الورق ينقل الأفكار والأخبار عبر الصحف والمجلات، لتصبح نوافذنا إلى العالم.
تبع ذلك اختراعان سحريان: المذياع والتلفزيون. فجأة، صار الصوت والصورة يطيران في الأثير، محطمين قيود المسافة، حاملين العالم بكل ألوانه وأصواته إلى غرفة معيشتنا.
ثم جاءت القفزة التي لم يسبق لها مثيل: الهاتف الذكيّ، الذي جمع كل ما سبقه وضاعفه أضعافًا.
لم يعد الجهاز مجرد وسيلة اتصال، بل أصبح بوابة لا نهائية إلى فضاء المعلومات. لأول مرة في تاريخ البشرية، أصبح تدفق المعلومات فوريًا ولا محدودًا وشخصيًا جدًا.
لم نعد نبحث عن المعلومة فقط، بل تُغرقنا المعلومات بحثًا عنا. أخبار العالم كله، مشاكله، أفراحه، كوارثه، كلها تتدفق في شلال متصل لا يتوقف.
وها نحن الآن على أعتاب ثورة جديدة هي الأعظم: ثورة الذكاء الاصطناعي. إذا كانت التقنيات السابقة قد نقلت لنا المعلومات، فإن الذكاء الاصطناعي لا ينقلها فقط، بل يولدها، يصيغها، ويُقدّمها لنا بشكل مخصص ومُصمم خصيصًا ليجذب انتباهنا ويستجيب لفضولنا العميق. لقد أصبح لدينا محرك لا يعرف الكلل، يعمل ليل نهار لإنشاء محتوى جديد يغذي نهمنا المعرفي الهائل. إنه تجسيد لقدرتنا على الابتكار، ولكنه أيضًا يمثل أعلى درجات التحدي لفطرتنا.
فها هي فطرة الإنسان، التي تطورت عبر آلاف السنين لتعمل في بيئة معلوماتية محدودة، تجد نفسها فجأة غارقة في محيط لا شاطئ له، ليس فقط من المعلومات الموجودة، بل من المعلومات التي يُختَلَق بعضها خصيصًا لها. هذا التصادم له ثمن باهظ يتمثل في إرهاق عقلي دائم يشبه حاسوبًا فتحنا عليه آلاف النوافذ في آن واحد، مما يؤدي إلى حالة من الاجهاد الذهني والقلق المستمر.
لقد قُتل التركيز العميق، فأصبح إيقاع حياتنا مقطعًا بإشعارات مستمرة، مما أثر على قدرتنا على التفكير بعمق. وعلى الرغم من اتصالنا بكل إنسان على الكوكب، فإننا قد نشعر بعزلة قاتلة، حيث حلت النصوص السريعة والتفاعلات السطحية التي قد يكون بعضها من الذكاء الاصطناعي محل الأحاديث الهامة والنظرات المباشرة، مما أضعف روابطنا الإنسانية الحقيقية.
فإذا كان الإنسان هو الإنسان، ولم نستطع إيقاف التقدم، فكيف ننجو؟ الجواب ليس في رفض التقنية أو الذكاء الاصطناعي، فهو من صنع أيدينا ويعكس ذروة عبقريتنا وإشباعًا لفضولنا. الجواب يكمن في الوعي والحكمة.
علينا أن نتعلم فن «الاقتصاد الانتباهي»، فانتباهنا هو أغلى ما نملك، وهو مورد محدود يجب أن نديره بحكمة كما ندير أموالنا.
هذا يعني أن نحمي فضولنا من الاستغلال بأن نتحكم فيما نستهلكه، لا أن نترك الخوارزميات والذكاء الاصطناعي يتحكمان بنا. علينا أن نطبق «حمية معلوماتية» ذكية نحدد فيها أوقاتًا للاطلاع، ونغلق الإشعارات غير الضرورية، ونتعلم أن نقول «كفى» للمزيد من الأخبار والمحتوى. وأن نعيد اكتشاف الصمت، فنخصص وقتًا للتأمل والقراءة العميقة، فهي أوكسجين للعقل والروح في هذا العالم الصاخب.