فائز بن سلمان الحمدي
المسجد في ضمير الأمة ليس جدارًا صامتًا ولا مئذنةً تعانق السماء فحسب، بل هو روحُ الأمة الحيَّة، وموئلُ سكينتها، ومنبرُ نهضتها، ومشعلُ وعيها. هو أول مدرسةٍ تعلّم فيها الصحابة، وأول جامعةٍ خرج منها العلماء، وأول مجلسٍ نبتت فيه البذورُ الأولى للحضارة الإسلامية التي أنارت الدنيا. من ساحته تخرجت الأجيال التي حملت القرآن سلوكًا ومنهجًا، ومن منبره ارتفع صوت الحق في وجه الظلم، ومن محرابه كان الدعاء الذي يمد الأمة بزاد الصبر والعزيمة. فالمسجد عبر التاريخ لم يكن مكانًا للصلاة وحدها، بل كان مصنعًا للرجال، وساحةً للعقول، وميدانًا تتلاقح فيه الأفكار، وتترسّخ فيه الهوية. ولأن المسجد بهذه المنزلة السامية، فقد أدركت وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد أنّ أعظم ما يُصان هو فكر منسوبيه، وأن أكرم ما يُحفظ هو عقول الأئمة والخطباء والمؤذنين، فأطلقت برامج الحصانة الفكرية، لتبني حول العقول أسوارًا من نور، وتشيّد للقلوب قلاعًا من طمأنينة، وتغرس في النفوس يقينًا يحفظها من الزلل والانحراف. إنّها خطوةٌ مباركة تُعيد للأمة ثقتها في منابرها، وتمنح المسجد رسالته الخالدة التي لم تنقطع يومًا منذ بزغ فجر الإسلام. الحصانة الفكرية ليست سياجًا من حديد، ولا جدارًا من حجر، بل هي حصنٌ من العلم، ودرعٌ من البصيرة، وسورٌ من الوسطية. هي القوة الناعمة التي تحمي الفكر من الانجراف، والقلب من الانطفاء، والهوية من التلاشي. بها يغدو المنسوب راسخَ العقيدة، متينَ العزيمة، نافذَ البصيرة، فيقف إمامًا على المحراب فيطمئن الناس بصلاته، ويعلو على المنبر خطيبًا فيبصرون الحق ببيانه، ويعيش بين الناس قدوةً تحميهم من الفتن وتشدّهم إلى سبيل الرشاد.
ومن أساليب هذه الحصانة ما يقوم على التأصيل الشرعي العميق، فالعقل لا يُحصَّن إلا بعلم راسخ، والقلب لا يُوقى إلا بفهم صحيح لمقاصد الشريعة ومآلاتها. ثم يأتي الحوار الراشد الذي يطفئ نار الشبهة ببرهانٍ ساطع، ويبدد ظلام الحيرة بكلمة هادئة، فالشبهة سهمٌ لا يُدفع بالصراخ، وإنما تُكسر حدته باليقين. ومن أساليبها كذلك التربية على التفكير الناقد، حتى يملك المنسوب سيفًا يقطع به زيف الدعاوى، ويكشف خداع الباطل. وتبقى القدوة العملية أبلغ في التأثير من آلاف الكلمات، فإن رأى المنسوب قائده يعيش ما يقول، أيقن أنّ الكلمة ليست حروفًا على الألسن، بل حياةً تُعاش وسلوكًا يُحتذى. ثم يأتي التدرج والرفق، فالعقول لا تُصاغ بالعنف ولا تُشكَّل بالقهر، بل تُهذَّب كما يُهذَّب الغرس، وتُسقى كما يُسقى النبت حتى يشتد ويثمر. وبفضل هذه الحصانة يغدو المسجد حصنًا للأمن الفكري، ومنارةً للوسطية، وميدانًا للوحدة الوطنية. ينطلق منه الإمام والخطيب والمؤذن وهم محصنون بالعلم، محاطون بالبصيرة، فيفيض أثرهم على المجتمع كله، فيستقيم الخطاب، ويترسخ الوعي، ويعم الأمن كما يعم النور الفضاء. إنّها حصانة لا تحمي الأفراد فحسب، بل تحمي الأوطان، وتبني جدارًا منيعًا في وجه الفكر المنحرف والدعوات المضللة.
وليس هذا البرنامج إلا شاهدًا حيًّا على وعي الوزارة وعلو رؤيتها، فقد أثبتت وزارة الشؤون الإسلامية أنها ليست جهازًا إداريًا يتابع الأبنية ويُدير الجداول، بل هي عقلٌ مدبر وقلبٌ نابض يدرك أنّ المسجد رسالةٌ متجددة. وأما معالي الوزير الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، فهو رائد هذه النهضة، وقائد هذه الرؤية، ورجلٌ حمل الأمانة فصانها، وأدرك أنّ حماية الفكر لا تقل شأنًا عن حماية العقيدة، وأنّ صيانة المنبر لا تتم إلا بصيانة العقول التي تعتليه. لقد أحسن القيادة، وأجاد التدبير، وفتح أمام الوزارة آفاقًا رحبة، حتى غدا أثره ملموسًا في كل مسجد، وصوته حاضرًا في كل منبر، وبصمته واضحة في كل برنامج. هو الوزير الذي لم يُدِر وزارة فحسب، بل قاد رسالة، وأحيا هوية، وأثبت أنّ المسؤولية حين يقترن بها الإخلاص، تثمر أمنًا فكريًا ورخاءً وطنيًا. الحصانة الفكرية التي تتبناها الوزارة ليست مشروعًا عابرًا، بل هي امتدادٌ لمجد الأمة، وظلالٌ لتاريخها المجيد، يوم كان المسجد جامعًا للعلم، ومجلسًا للشورى، ومنطلقًا للفتوحات. واليوم، في ثوبها العصري، توازن هذه الحصانة بين ثوابت الدين ومتغيرات العصر، لتبقى رسالة المسجد عالميةً كما أرادها الوحي، متجددةً كما تقتضي السنن، راسخةً كما يليق بدين الخلود.
وإنّ الأمة لتدين بالشكر لوزارة الشؤون الإسلامية على ما تبذله من جهدٍ صادق، ولمعالي الوزير على ما أبداه من حكمةٍ ورؤية، فقد أثبتا معًا أن حماية الدين لا تكون إلا بحماية الفكر، وأن صيانة المسجد لا تتحقق إلا بصيانة عقول منسوبيه. وما المساجد اليوم إلا قلاع نور وحصون وعي، تظلّل الأمة بالسكينة، وتضيء دروبها بالهدى، وتحفظ لها عقيدتها نقيةً صافية، وفكرها عزيزًا منيعًا، ورسالتها خالدةً ما بقي الدهر.