جانبي فروقة
عندما ننظر إلى الاقتصادات الكبرى في العالم، نكتشف أن قوتها لا تقوم على الشركات العملاقة وحدها، بل على شبكة واسعة من المشاريع والشركات الصغيرة والمتوسطة التي تنبض بالحياة في كل مدينة وشارع. هذه المشاريع ليست مجرد متاجر أو ورش أو شركات عائلية، بل هي أشبه بــ«شعيرات دموية» تغذي الجسد الاقتصادي وتمنحه مرونة وقدرة على النمو والتجدد.
ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال هناك أكثر من ثلاثة وثلاثين مليون رخصة تجارية قائمة لشركات صغيرة ومتوسطة، أي أن 69 % من النسيج الاقتصادي الأمريكي يتكون من هذه المشاريع. هذه الملايين من الشركات تشغل أكثر من 60 مليون إنسان، أي نحو نصف القوة العاملة في أمريكا، والأهم من ذلك أن الحكومة الأمريكية لا تكتفي بتركها تواجه السوق وحدها، بل تفتح لها أبواب العقود الحكومية، حيث يتم تخصيص ما يقارب من 23 % من مشتريات الدولة لصالحها وهذا يعني أن مقاولاً صغيراً في تكساس أو شركة ناشئة في كاليفورنيا يمكن أن تجد نفسها فجأة ضمن سلسلة التوريد لمؤسسة فيدرالية عملاقة وخلف هذا النظام تقف إدارة الأعمال الصغيرة (SBA) (Small Business Administration) التي تتحرك كذراع تمكيني حقيقي بمساعدتها لهذه الشركات بالحصول على قروض ميسّرة، فتضمن البنوك كي تموّل هذه الشركات، وتوفر التدريب والاستشارات وحتى الدعم للتصدير. وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، تقدّم أوروبا نموذجاً متنوعاً، لكن التجربة الألمانية تبقى الأبرز فيها بما يُعرف بـ»Mittelstand». هذه الكلمة الألمانية تعني أكثر من مجرد «شركة متوسطة». إنها تصف نمطاً اقتصادياً متجذراً في المجتمع، يعتمد على شركات عائلية متوارثة عبر الأجيال، صغيرة أو متوسطة، لكنها متخصصة إلى حدّ الإبهار، قد لا نسمع أسماءها في الإعلام مثل «سيمنس» أو «بي إم دبليو»، لكنها ربما الشركة الوحيدة في العالم التي تنتج قطعة صغيرة تدخل في تصنيع كل محرك طائرة أو كل جهاز أشعة في المستشفيات. هذه الشركات هي العمود الفقري للاقتصاد الألماني، تشغّل ملايين الألمان (ما يقرب من ثلثي القوة العاملة)، وتتمتع بدعم حكومي منظم من تمويل ميسر عبر بنوك التنمية وبرامج تدريب مهني تجعل التعليم مرتبطاً مباشرة بحاجات السوق، وثقافة مجتمعية تفتخر بالصناعة والحِرفة.
وفي منطقتنا العربية، بدأت ملامح التحول تظهر بوضوح، وخاصة في السعودية. خلال سنوات قليلة فقط، نجحت «منشآت» – الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة – في مضاعفة أعداد الشركات المسجلة لتتجاوز 1.5 مليون منشأة وتساهم اليوم بحوالي 30 % من الناتج المحلي، مع هدف لرفع النسبة إلى 35 % بحلول 2030 والأهم أن هناك بنية تمكينية تتشكل من برامج مثل «كفالة» لتقديم ضمانات القروض، و»فرصة» لإتاحة المناقصات الحكومية للشركات الصغيرة وكذلك صندوق التنمية الصناعي السعودي الذي يمول مشاريع صناعية متوسطة وصغيرة أيضا ومراكز لدعم التمويل والتدريب، فالتجربة السعودية تعكس وعياً جديداً بأن تنويع الاقتصاد لا يتحقق إلا عبر تمكين هذه المشاريع التي تخلق الوظائف وتوزع التنمية خارج المراكز الحضرية الكبرى.
واليوم يظهر الذكاء الاصطناعي كعنصر جديد وتقنية يمكن أن تكون داعما قويا لمستقبل الشركات الصغيرة والمتوسطة حيث إن هذه التقنية لم تعد حكراً على الشركات العملاقة في وادي السيليكون فالي حيث يستطيع مطعم صغير أو مصنع ناشئ أن يستخدم أدوات ذكاء اصطناعي لتحليل بيانات عملائه، توقع الطلبات، إدارة المخزون، وحتى إطلاق حملات تسويقية ذكية تستهدف الزبون المناسب في الوقت المناسب والروبوتات البرمجية يمكنها أن تدير المحاسبة والفواتير والمهام الروتينية، فتخفّض التكاليف وتحرر وقت رواد الأعمال للتركيز على الإبداع والنمو. بل إن الذكاء الاصطناعي يفتح الأسواق العالمية أمام الشركات الصغيرة دون أن تضطر لإنشاء مكاتب في الخارج، بفضل الترجمة الفورية والتجارة الإلكترونية المدعومة بالخوارزميات والسؤال الكبير اليوم كيف يمكن للحكومات في منطقتنا أن تستفيد من هذه التجارب؟ الأمر يبدأ من التشريعات. حيث يحتاج القطاع الاقتصادي إلى قوانين تسجيل ميسّرة تسمح بتأسيس الشركات خلال أيام قليلة برسوم بسيطة وتحتاج إلى برامج تمويل بضمانات حكومية تشجع البنوك على تمويل رواد الأعمال وأيضا تحتاج إلى إلزام الجهات الحكومية بتخصيص نسبة من عقودها للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتقسيم المناقصات الكبرى إلى حزم أصغر تناسب قدراتها وأهم مبادرة هي الحاجة القصوى إلى ربط الجامعات ومراكز البحث بالشركات الصغيرة لخلق بيئة ابتكار محلية.
إن نموذج الشركات المتوسطة والصغيرة يمكن أن يكون الطريق الأسرع لازدهار إفريقيا أيضا عبر التخصص في الصناعات المحلية وتحويل المواد الخام إلى قيمة مضافة وخاصة إن القارة الإفريقية غنية بمواد خام كالشكولا والمجوهرات والأقمشة والخشب وباستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كرافعة يمكن لإفريقيا أن تقفز للمستقبل فتبني مثلا مزارع صغيرة في كينيا تستخدم التطبيقات الذكية لمعرفة أفضل وقت للزراعة والحصاد وترفع إنتاجية المزارع وكما في إيطاليا التي بنت اقتصادها في الأزياء مثلا عبر ورش الأزياء الصغيرة التي شكلت سلاسل توريد عميقة ومبتكرة لقطاع الأزياء فيها وكما نجحت فرنسا في جعل منتجاتها الحرفية جزءا من علامتها الوطنية يمكن لإفريقا أن تبرز قوتها الثقافية وهويتها في مجالات الأزياء والصناعات اليدوية والفنون وتحويلها لمنتجات عالمية
في عالم اليوم الاقتصاد لا يُبنى فقط عبر الأبراج الزجاجية والشركات العملاقة، بل أيضاً عبر مئات الآلاف من الورش والمشاريع والمتاجر والمصانع الصغيرة والمتوسطة التي تصنع الوظائف، وتدرّب الشباب، وتبتكر حلولاً محلية لمشكلات محلية والتجارب الأمريكية والأوروبية والسعودية الناشئة تؤكد أن هذا القطاع هو صانع المستقبل، وأن أي حكومة تتجاهل دوره ستبقى رهينة لاقتصاد هشّ معرض للتقلبات.
إن الاستثمار في الشركات الصغيرة والمتوسطة ليس سياسة اجتماعية أو مبادرة خيرية، بل هو رهان اقتصادي استراتيجي على استقرار الدولة ونموها. فالمجتمعات لا تقوى بالعمالقة وحدهم، بل أيضاً بالشبكات الواسعة من المشاريع الصغيرة التي تمنح الاقتصاد ديناميكيته، والمجتمع قدرته على النهوض في وجه الأزمات، والمستقبل أفقاً أوسع من الحاضر.
** **
- كاتب أمريكي