خالد بن عبدالرحمن الذييب
في الساعة الثالثة والنصف مساءً من كل يوم، في مدينة كوينسبرغ الألمانية في حينه، يبدأ الطقس المقدس للفيلسوف الألماني الأشهر إيمانويل كانط مرتدياً معطفه الأنيق ويمشي في نفس المسار لمدة ساعة، حتى أصبح سكان المدينة يضبطون أوقاتهم على «نزهة الفيلسوف» كما سميت فيما بعد. ومع أن المدينة دُمرت أثناء الحرب العالمية الثانية وأصبحت تابعة لروسيا باسم «كالينينغراد» إلا أن شهرة ذاك الممر ما زالت «ذائعة الصيت» عند محبي الفلسفة عامة ومريدي فكر «كانط» بشكل خاص. كانط كان سبباً في شهرة الممر، وشهرة المدينة بشكل عام ولكن لا شك أيضاً أن وجود الممر المهيأ للمشي كان أحد أسباب تغذية خيال كانط، وتنمية أفكاره وإنتاجه الفلسفي.
قبل ذلك بقرون، تم إنشاء مدرسة فلسفية تاريخية سميت «مدرسة المشائين» والتي اتخذت من المشي داخل ممرات «اللايسيوم» في أثينا مكاناً لمناقشة الأفكار الفلسفية عن طريق أرسطو عام 335 ق.م، والذي يرى أن الحركة الجسدية تساعد على تنشيط العقل من خلال المشي في ممرات خاصة مغطاة ومصممة لتعليم الحوار الهادئ، وممارسة التفكير في مساحة محدودة مغلقة.
وفي مجال إبداعي آخر فإن اختراع التيار المتردد عن طريق نيقولا تسلا بدأت فكرته أثناء المشي في حديقة بمدينة بودابست عام 1882م وفي أكثر الأقوال إنها حديقة «فاروسليجيت»، كما أن ستيف جوبز كان يمارس اجتماعاته أثناء المشي حول حرم شركة آبل في الأحياء المجاورة والمسماة حالياً «آبل بارك»، والذي أتى من خلال رؤية جوبز نفسه بتحويل الموقع المحيط بشركته إلى مساحة خضراء بنسبة 80 %، لإيمانه بأن الحركة تساعد على التحفيز الإبداعي.
أما المفكر الألماني والتر بنيامين فقد فطن إلى أهمية الممرات كمكان ثالث من جانب فلسفي قبل استخدامها كمصطلح تخطيطي، باعتبار الممرات مكان للتجمع بين شرائح مختلفة من أبناء المجتمع وذلك من خلال عمله والذي بدأ به عام 1927م ومات عام 1940م قبل اكتماله وهو «مشروع الممرات» والذي كان يتحدث عن ممرات باريس المغطاة وعلاقتها بالنسيج الثقافي لمدينة باريس من حيث أنها مكاناً ملهماً للإبداع. هذا لا يعني أن المبدعين لا يظهرون في بيئات أخرى تفتقر للجانب التخطيطي والبيئة الاجتماعية، فالمبدع الحقيقي يظهر في أي زمان ومكان، ولكن الحديث عن الإبداع كبيئة محفزة وحالة مجتمعية مستدامة.
أخيراً ...
التخطيط والإبداع بينهما علاقة تبادلية، يصعب على الإبداع النجاح دون وجود بنية ثقافية اجتماعية يكون التخطيط العمراني عنصراً مهماً فيها تزدهر فيه فكرة «المكان الثالث» كأحد أهم عناصر الإبداع.
ما بعد أخيراً...
الفرد «المبدع» يظهر في أي مكان وزمان، بينما «الإبداع» كحراك اجتماعي، فهو تكامل بين عدة أطراف: المجتمع، المدينة، الأفراد.