د. أحمد محمد القزعل
فن الحياة الجميلة تلك الصناعة التي لا تُقاس بالمقاييس المادية فحسب، بل تُبنى بروح ترى ما وراء الأشياء وتُدرك أن الجمال الحقيقي لا يُختزل في المظهر، بل يتعداه ليُلامس الجوهر ويعانق القيم ويهمس في ضمير الإنسان بما يفتح نوافذ الروح على البهجة والنقاء، ولعل صناعة الجمال هي تلك القدرة الفريدة على تحويل الفكرة إلى فنّ والشعور إلى لحن والمكان إلى حالة من الراحة البصرية والروحية، إنها سعيٌ حثيث لتجميل الحياة لا بالزخرف فقط بل بالحب والرحمة والنبل والصدق، فالجمال حين يكون نابعاً من أعماق النفس، يتحوّل إلى طاقة تبعث النور في الوجوه وتنشر السلام في النفوس وتصنع من اللحظات العادية لحظات جديرة بالتقدير والاحتفال.
وليس الجمال مجرد لون أنيق أو تنسيق جذّاب بل هو ثقافة ووعي وسلوك، إنه رؤيتنا للعالم وطريقتنا في العيش وتفاعلنا مع الآخرين، وكلما زاد فهمنا للجمال اتسعت قدرتنا على إبداع الجمال في الكلمة والابتسامة والاحترام والتفاني في العمل والعناية بالتفاصيل التي قد يغفل عنها الكثيرون لكنها تصنع الفرق، كما أن صناعة الجمال ليست حكراً على الفنانين أو الأدباء، بل هي دعوة لكل إنسان أياً كان دوره في المجتمع؛ لأن يكون مُساهماً في رسم لوحة الحياة، فالطبيب يصنع الجمال حين يعالج بضمير، والمعلم يصنع الجمال حين يزرع المعرفة بمحبة، والنجار يصنع الجمال حين يُتقن صناعته، والأم تصنع الجمال حين تزرع الأمان في قلب طفلها، فالجميع يمكنهم أن يكونوا رُسلاً للجمال في حياتهم اليومية. وإذا تأملنا في الجمال التربوي الإنساني وجدنا أنه يتمثل في صفات راقية: الصدق الذي يعكس أصالة النفس، والرحمة التي تفيض من القلب فتلمس كل من حوله، والتواضع الذي يُضفي على الإنسان وقاراً لا يضاهيه مظهر، وهذه الصفات ليست مجرّد فضائل أخلاقية، بل هي جمال خالص يُعاش ويُمارَس ويصنع فرقاً في الحياة الخاصة والعامة، وفي هذا السياق نأتي إلى الجمال التربوي في الإسلام، ذلك الجمال الذي يُمكن صناعته واكتسابه؛ لأنه ليس منحةً جينية بل هو تربية واختيار، حيث يُعنى الإسلام بالزينة الظاهرة من نظافة وأناقة وحسن مظهر، لكنه يولي في الوقت نفسه أهمية أعظم للزينة الباطنة: زينة الأخلاق وصفاء القلب وحسن العمل، ولقد بيّن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- أن الجمال الحقيقي يكمن في الداخل في نقاء النية وصفاء القلب وإخلاص العمل، فقال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، وهذه كلماتٌ بسيطة في ظاهرها، لكنها تفتح آفاقاً من التأمل في معنى الجمال وأين يُقيم.
ومن نافلة القول: إن التربية على الجمال هي من أعظم المهام الإنسانية، فبناء الإنسان المتزن لا يكتمل دون تعليمه كيف يرى الجمال ويقدّره ويصنعه حيثما كان، إنها تربية تنحت في النفس الذوق وتزرع في السلوك الاتزان وتشعل في العقل الإبداع، وإن مجتمعاً يربي أبناءه على الجمال هو مجتمع يصنع مستقبلاً راقياً مليئاً بالتسامح مغموراً بالإنسانية، متصالحاً مع ذاته، فالجمال هو ما يمنح الحياة لونها الإنساني ويمنح الإنسان قيمته الوجدانية ويمنح المجتمعات استقرارها وألقها الأخلاقي.