عبدالعزيز بن عليان العنيزان
في خضم المنافسة اللامتناهية بالبيئة الدولية وما ينتج عنها من حروب ونزاعات تتزايد بشكل متسارع جدا. تسعى دول معينة إلى انتهاج سياسة خارجية حيادية لبناء علاقات طيبة مع مختلف الدول دون الخوض في الملفات الحساسة والمواضيع التي تثير حفيظة الآخر.
وكما يتطلب الحياد أيضا بأن لا يكون لهذه الدول مواقف واضحة في النزاعات من تأييد طرف أو معارضته على حساب الطرف الآخر، لكي تلتزم بموقف حيادي ومساعي حميدة من خلال دعوة المتنازعين بالتوصل إلى تسوية سلمية عبر الطرق والقنوات الدبلوماسية.
باعتبار أن هذا السلوك في السياسة الخارجية يساعدها بالابتعاد عن الدخول في أية صدامات مع محيطها الإقليمي أو حتى القوى الدولية. وأيضا تحقيق أهدافها المرجوة من التفاعل في الساحة الدولية مثل زيادة المنافع التجارية والاقتصادية لها في ميزان التبادل التجاري العالمي وتعزيز التعاون المشترك مع أكبر عدد من الدول في مختلف المجالات.
لكنه في ظل السياسة الدولية المعاصرة وما تشهده من عدوانية بالسلوك بسبب تفاقم العديد من الأزمات والصراعات والخلافات، نجد بأن فكرة الحياد تفتقد للواقع التطبيقي بشكل متكامل. وذلك لأن طبيعة النظام الدولي تتناقض مع مبدأ الحياد لاعتمادها على عاملي المنافسة والمصلحة كمحركين رئيسين للعلاقات بين الدول. فالدولة عندما تطمح إلى تحقيق ركائزها للسياسة الخارجية تضطر للدخول في خلافات وتوترات لا مفر منها لحماية مصالحها الخارجية.
كذلك فإن تجربة الدولة الحيادية عبر الحقبات التاريخية للمجتمع الدولي يشوبها السلوك المتباين، إذ تٌصنف بعض الدول باتباعها للحياد السياسي لكنها في المقابل تتبنى مواقف في بعض المسائل والقضايا الدولية تتضارب مع الحياد. مثل بيع الأسلحة لدول مرتبطة في صراعات قائمة أو تبنيها للعقوبات الاقتصادية المفروضة على أحد طرفي الصراع في حرب ما، بالإضافة إلى حالات الإدانة في كثير من الأحيان. وكانت هناك أمثلة واضحة لهذا التباين في سلوك الدول الحيادية منذ الحرب العالمية الأولى ومرورا بمرحلة الحرب الباردة وبعدها غزو أفغانستان وغزو العراق وانتهاء بغزو أوكرانيا.
من ناحية أخرى يشهد مبدأ الحياد اضمحلالا تدريجيا في البيئة الدولية كنتيجة متوقعة للظروف والتطورات السياسية المتلاحقة في الساحة الدولية، التي أودت إلى توسيع رقعة الصراع والتنافس الجيوسياسي حول العالم.
فأصبحت الدول الحيادية تائهة بين خيارين، الأول المضي قدما في سياستها الحيادية رغم كل هذه التحديات والحد من تفاعلها الخارجي بسبب ارتفاع عدد مناطق الصراع بين القوى الكبرى واقترابها من أراضيها ما قد يهدد سيادتها الداخلية.
أم الخيار الثاني المتمثل بإيجاد تكتل سياسي أو عسكري تنضم إليه هذه الدول، ومن خلاله تندمج المصالح والمواقف ما يجعلها تتخلى عن مبدأ الحياد في قاموس سياستها الخارجية وتستبدله بتبني مواقف شركائها. وتتجلى هذه الخطوة بشكل فعلي في انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو مؤخرا.
وبناء على هذه المعطيات والدلائل نتوصل إلى حقيقة مفادها بأن مبدأ الحياد في السياسة الخارجية للدول ليس من السهل تطبيقه بشكل متكامل في السياسة الدولية المعاصرة. حيث يمر العالم في وقتنا الراهن بمرحلة حرجة تسبب في تقليص العدد للدول الحيادية، وتجبرها على اتباع سياسة خارجية مغايرة تماما لحيادها المعهود.
فهذه التحولات تعطي إشارات على احتمالية زوال مبدأ الحياد السياسي مستقبلاً وستصبح العلاقات الدولية أكثر عنفا وقسوة مما هي عليه الآن، لأنه عندما تكثر حالات التصادم سواء المباشر أو غير المباشر بين الدول مع غياب الوسيط الحيادي لحل الخلافات في القضايا المستجدة، سيصبح العدوان هو الركيزة الرئيسية لسلوك الدول في سياستها الخارجية.