د.علاء الدين محمد كوكانجيري
ظلّت شخصية الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- لأكثر من أربعة عشر قرنا موضوعا للبحث والكتابة في الشرق والغرب، ومصدرًا لإلهام لا ينقطع. فقد جمع بين قداسة الرسالة وتجربة الإنسان بما فيها من صبر وتحديات؛ فكان رسولًا نبيًّا، ومربّيًا وأبًا، وقائدًا وسياسيًا محنّكًا. ومع ذلك، اقتصرت بعض الدراسات التقليدية على تشريعاته أو معجزاته، وأغفلت إنسانيته وتجربته القيادية الفريدة التي تمثل جوهر رسالته.
هذه القراءة تسعى إلى الكشف عن أبعاد إنسانية وفكرية واستراتيجية في شخصيته -صلى الله عليه وسلم- بالاستناد إلى القرآن الكريم والسيرة النبوية، مع إطلالة على شهادات نادرة من خارج الدائرة الإسلامية. ومن خلالها تتجلى صورة «الإنسان الكامل» الذي جمع بين الروحانية العميقة والواقعية العملية، وبين القيادة الحكيمة والرحمة الأبوية، ليبقى نموذجًا خالدًا للإنسانية كلها.
فقد قدّم القرآن الكريم شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم- بصورة متوازنة تُظهره بشرًا يشارك الناس قلقهم وأحلامهم، لا صورة مثالية متعالية.
لحظات الانتظار: قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} (البقرة: 144) يرسم مشهدًا دقيقًا لنبيٍّ يترقّب نزول الوحي بلهفة وقلق، وهي صورة إنسانية تُقربه إلى وجدان كل مؤمن.
الأخلاق جوهر الرسالة: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) يجعل من الأخلاق معيار القيادة، فيجمع بين النبوّة والقدوة العملية.
الضعف الإنساني: لم يُخفِ القرآن لحظات حزنه أو تعبه أو ابتلائه، ليؤكد أن الكمال ممكن داخل التجربة الإنسانية، لا بعيدًا عنها. بهذا يرسم القرآن صورة متوازنة: نبيّ يعيش التجربة البشرية كاملة، ويرتقي بها نحو السمو الروحي والأخلاقي.
ورحمته -صلى الله عليه وسلم- لم تكن مجرّد خُلق فردي، بل كانت فلسفة حياتية انعكست في أصغر تفاصيل الحياة وأكبرها.
مع الأطفال: كان يمازح الصغار في طرقات المدينة، مع المجتمع: لم يقتصر دوره على التودّد الفردي، بل بنى مجتمعًا متماسكًا في المدينة، جمع بين قبائل متفرقة، وأقام دولة تحفظ الخصوصيات وتضمن العدل والحقوق.
التعايش بالاختلاف: اعتمد مبدأ الوحدة في إطار التنوع، فاحترم الهويات الثقافية والدينية المختلفة، مع الحفاظ على مظلة جامعة من القيم والعدل. إنها رحمة شاملة امتدت من البيت إلى الدولة، ومن المواقف الصغيرة إلى السياسات الكبرى، لتصبح قاعدة حضارية في بناء الأمة.
وما يميز محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن إنسانيته لم تُلمَس فقط من قِبل المسلمين، بل لفتت أنظار من عاشوا خارج دائرة رسالته.
انطباعات غربية قديمة: وصفه بعض المدوِّنين الغربيين بأنه «رجل عربي يتحدث بثقة وهدوء، يجذب سامعيه بحكمته. شهادة لا تحمل دافعًا إيمانيًا، لكنها تكشف عن أثر حقيقي.
توافق الداخل والخارج: رُوي عن أصحابه أنه كان إذا تكلّم أصغوا إليه وكأنما على رؤوسهم الطير. هذه الصورة تتقاطع مع انطباعات غير المسلمين، ما يعكس قوة حضوره الإنساني.
المصداقية التاريخية: قيمة هذه الشهادات أنها محايدة، ما يجعلها دليلًا إضافيًا على عالميته. إن قراءة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- الإنسان الكامل: رؤى جديدة بين السجل التاريخي والتحليل المعاصر من خلال «مرايا الآخر» تكشف عمق عالميته، وتؤكد أن أثره لم يكن محليًا ولا ظرفيًا، بل إنسانيًا ممتدًا يتجاوز الزمان والمكان.
القائد المشارك: لم يكتفِ بالتخطيط، بل شارك بنفسه في الحفر، يحمل التراب ويقاسم أصحابه التعب والجوع، مؤكدًا أنه يعيش معهم لا فوقهم.
الابتكار والمرونة: فكرة الخندق لم تكن مألوفة في الجزيرة العربية، لكنه تبنّاها بجرأة، ما يكشف عن انفتاحه على الحلول غير التقليدية، وقد كانت غزوة الخندق نموذجاً بليغاً لقيادته الاستراتيجية.
تنظيم الصفوف: وزّع الأدوار بوضوح، وحوّل جماعة صغيرة محاصرة إلى قوة منيعة عصيّة على الاختراق.
صناعة الأمل: في ذروة الخوف والجوع، بشّر أصحابه بفتوحات مقبلة، محوّلًا الأزمة إلى مصدر إلهام.
هنا تظهر القيادة الحقيقية ليست فقط في القرارات العسكرية، بل في القدرة على بث الأمل وتحويل المحنة إلى منطلق للنهضة.
ومن أبرز ملامح إنسانيته - صلى الله عليه وسلم- موقفه من المرأة؛ فقد جعلها شريكة في بناء المجتمع، وأكد مكانتها في التربية والتعليم، حتى قال: «النساء شقائق الرجال». لم يكن حديثه مجرد شعار أخلاقي، بل ممارسة عملية تُرجمَت في تفاصيل حياته اليومية.
في الأسرة: أعاد النبي - صلى الله عليه وسلم- الاعتبار للمرأة كأم وزوجة وبنت، ورفع منزلتها من كونها مهمَّشة في الجاهلية إلى أن تكون موضع تكريم، فقال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».
في العلم والتعليم: فتح - صلى الله عليه وسلم- أبواب المعرفة للنساء، وخصص لهن أيامًا يعظهن فيها ويجيب عن أسئلتهن، لتكون المرأة متعلمة وواعية بدينها ومجتمعها. وقد كانت عائشة رضي الله عنها مرجعًا علميًا وفقيهة يُرجع إليها كبار الصحابة. كما برزت أسماء بنت أبي بكر في الهجرة، وأم سلمة في المشورة السياسية يوم الحديبية، ونسيبة بنت كعب في الجهاد بسيفها يوم أُحد.
في المجتمع والسياسة: شاركت المرأة في البيعة والهجرة والإغاثة والتمريض، وأسهمت في حماية الرسالة ودعم مشروع الإصلاح. إن هذا النموذج سبق عصره في إرساء أسس العدالة والإنصاف الجندري، حيث أكد أن النهوض بالمجتمع لا يتم إلا بمشاركة متكاملة من المرأة والرجل معًا.
إن فلسفة «الإنسان الكامل» في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم- تقوم على رؤية متكاملة للوجود الإنساني. فالكمال في التصور النبوي لا يقوم على الانفصال بين الروح والجسد، ولا على نفي أحد البعدين لصالح الآخر، وإنما على تحقيق توازن دقيق بين مطالب الروح وضرورات الجسد، بين عالم الوحي وعالم الحياة، بين المثال والواقع.
فقد قدّم نموذجًا يدمج القداسة بالإنسانية؛ إذ لم يكن متصوفًا منعزلًا في محراب، ولا رجل دولة يذيب البعد الروحي في حسابات السياسة، بل جمع بين العبادة والخشوع من جهة، والعمل والفاعلية من جهة أخرى.
في الليل كان يقوم حتى تتورم قدماه، وفي النهار كان يتفقد الأسواق، ويواسي الضعفاء، ويقود الجيوش عند الحاجة.
إن فلسفة «الإنسان الكامل» عنده - صلى الله عليه وسلم- تكمن في قدرته على تحويل التعدد في أدوار الإنسان إلى انسجام، بحيث لا تطغى وظيفة على أخرى: فهو الأب والزوج والصديق والقائد والمفكر والرسول في آن واحد. وهذا التوازن هو ما يجعل شخصيته مرجعًا أبديًا لمفهوم الإنسان المتكامل.
إن شخصية النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- ليست مجرد سجل تاريخي تُقرأ أحداثه في كتب السيرة، بل هي نموذج حيّ يتجاوز حدود الزمان والمكان، يظلّ يلهم العالم حتى يومنا هذا. فقد جمع بين الروحانية العميقة والعمل الواقعي، بين الرحمة والعدل، بين القيادة والتواضع، وبين الإيمان العميق والانخراط الفاعل في قضايا الحياة اليومية.
ففي عصرنا المليء بالأزمات والاضطرابات، حيث تتراجع القيم أمام سطوة المصالح المادية، تظلّ سيرته العطرة مصدرًا لا ينضب للإلهام، ودعوة مفتوحة إلى استعادة توازن القيم بين العقل والإيمان، بين الفرد والمجتمع، بين الطموح الروحي والتحديات الواقعية.
لقد جسّد -صلى الله عليه وسلم- إمكانية العيش في عالم متحوّل دون أن يفقد الإنسان أصالته الروحية أو التزامه الأخلاقي.
وفي زمن الإعلام الرقمي وصراع السرديات، يظلّ النموذج النبوي شاهدًا على أن القيادة الحقيقية لا تُبنى على الشعارات الفارغة، ولا على دغدغة العواطف العابرة، بل على الصدق والأمانة، والقدرة على الجمع بين المبدأ والمصلحة، بين الرحمة والحزم.
لقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا للعرب في القرن السابع، لكنه ظلّ - وما يزال - بمنهجه قائدًا عالميًا للقرن الحادي والعشرين وما بعده، يرشد الإنسانية إلى طريق أكثر عدلًا ورحمة وتوازنًا. وهكذا يظلّ محمد - صلى الله عليه وسلم- ليس فقط نبيًّا للعقيدة، بل معلمًا للإنسانية جمعاء، يقدم للعالم نموذجًا متجددًا للقيادة بالرحمة، وللنهضة بالقيم.
إننا حين نتأمل شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بعيدًا عن الصور النمطية والقراءات السطحية، ندرك أن رسالته لم تكن موجهة إلى جماعة بعينها، بل إلى الإنسان في كل مكان وزمان.
ومن هنا، فإن استعادة النموذج النبوي ليست عودةً إلى الماضي، بل انطلاقة نحو مستقبل أكثر إنسانية. ففي عالم يموج بالتحديات، يبقى محمد - صلى الله عليه وسلم- هو «الإنسان الكامل» الذي يذكّرنا بأن الطريق إلى النهضة يبدأ بالصدق والعدل، وينتهي إلى الرحمة والسلام.
** **
محاضر في قسم الماجستير والبحوث للغة العربية، كلية السنية العربية - كاليكوت