د. محمد بن عبدالعزيز العميريني
شكّل الخطاب السياسي الملكي الذي ألقاه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في افتتاح أعمال مجلس الشورى فعلًا لغويًا مؤسسًا، يتجاوز كونه مجرد تقرير وصفي لما يحدث ليس بالمعنى التداولي المباشر فحسب، بل بالمعنى الوجودي الذي جعل من اللغة قوة منشئة للواقع ومحددة لأفقه، كما يعد أداة فاعلة في تشكيل الهوية الوطنية، وصياغة المواقف السياسية؛ فهو يعمل على مستويين متوازيين: مستوى داخلي حيث يعمل كمرآة تعكس الذات السياسية والوجدان الجمعي للمملكة العربية السعودية، ومستوى خارجي بوصفه رسالة موجهة للنظام الدولي لتحديد الموقع الأخلاقي والسياسي للدولة. وفي قلب هذه الديناميكية الخطابية تبرز عدد من القضايا الراهنة على رأسها القضية الفلسطينية اليوم كموضوع مركزي تتجلى في خطاباته إثر كل مناسبة سياسية، ليس مجرد تعليق على الأحداث القائمة، وإنما ممارسة تداولية تُجلّي السلطة من خلال أفعال الكلام؛ وتؤسس مواقف من خلال تجييش العبارات العميقة ذات الدلالات التاريخية التي لا تقبل الجدل بلغة (إنجازية)؛ فسموه يُصدر أحكام رفضٍ وإدانة، ويُؤكد على ثبات الحقوق وشرعيتها، ويلتزم بمبادرات السلام كإطار للحل الأمني والتصعيدات الحربية في غزة، مما يصيغ واقعًا سياسيًا يوجه الرأي العام المحلي والدولي ويصبح خطابه أداة لتشكيل الرأي العام نحو رؤية المملكة العربية السعودية الثابتة في الخريطة السياسية الدولية تجاه القضية الفلسطينية منذ بداياتها.
إن إسقاط رؤية تحليلية لخطابات سموه، في ضوء القراءة التداولية اللسانية الفلسفية يُعد مقاربة تكشف عن عميق الأبعاد الاستراتيجية والرمزية الكامنة في خطابه، التي تتجاوز المعنى الحرفي إلى الفعل والإقناع وتحقيق الأثر، فحديثه-مثلاً- عن تنويع الاقتصاد ومساراته ليس وصفاً للحدث بل إحداث وتأكيد للحدث، فلغة سموه تتجه من الوسيط الوصفي إلى كونها محركاً إرادياً ينشئ واقعاً جديداً مستعيراً ألفاظ الطمأنة والتوجيه، وإثبات السلطة المشعرة بالثبات والقوة، من -هنا- فإن الخطاب السياسي الرسمي لا يُفهم باعتباره نصًا وصفيًا أو تقريرًا محايدًا للأحداث؛ بل هو فعل لغوي مؤسس يرسم صورة الدولة، ويحدد موقعها الأخلاقي والسياسي في النظام الدولي. لذا غدا الخطاب الملكي مرآة للذات السياسية للمملكة العربية السعودية، وفي الوقت نفسه أداة لمخاطبة الآخر الدولي وصياغة وعي جمعي حول القضايا المركزية التي تشغله، ولم ينس سموه أن يُمازج بين الهوية الموروثة، والهوية المرسومة من خلال تحديد الغايات الكبرى، وإعطاء معنى صريحاً للزمن.
وفي تداولية الخطاب والسلطة الخطابية، لا تُختزل اللغة في نقل المعنى، بل تُفهم باعتبارها أفعالًا كلامية تمارس سلطة وتُنتج واقعًا. الخطاب الملكي -هنا- يتجاوز كونه نصًا ليصبح ممارسة تداولية تستخدم أدوات لغوية متنوعة لتشكل (ميثاقاً لغوياً)؛ فتطلق أفعال الرفض والإدانة كشكل من الاحتجاج الرسمي، وتؤكد عبر أفعال التوكيد ثبات الحقوق وشرعيتها كاستراتيجية لترسيخ الذاكرة السياسية، وتتبنى أفعالاً التزامية تجسّدها الجهود الدبلوماسية المستمرة.
وحين نتجه إلى محاولة تفكيك خطاب سموه على مستوى الأفعال الكلامية نجدها دائمة التنوع والحضور المكثف مما أسلمها إلى أن تتحول إلى مرجعية فكرية ورمزية، وليست مجالاً للتداول اللحظي، وأحال سموه تلك الأفعال إلى بنية معيارية تحدد السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة، وتخلق التزامات جديدة، وتعيد -بدقة- رسم حدود الواقع، فالأفعال التوكيدية في خطاب سموه تؤكد الالتزام بالحقيقة وتُخاطب العقل والمنطق لدى المتلقي (الداخلي والخارجي) لتأسيس أرضية واقعية للاقتصاد والاستثمار، أما الأفعال التوجيهية فحاول سموه من خلالها إحداث تأثير وجعل المخاطب يفعل ما دعاه إليه، لأن المسؤولية مشتركة بين أبناء الوطن وهي قاعدة ذهبية تحول المواطن إلى شريك فاعل في الإنتاجية المجتمعية، وغالب خطابات سموه تتجه إلى تأكيد الهوية الجماعية بوصفها الحاضن الأكبر لقيم الانتماء والولاء، وأنها مشروع وطني جامع يضمن الاستمرار والحضور، ويؤكد ذلك الضمير الجمعي الذي تكرر في خطاب سموه، ولم يُغفل سموه الأفعال التعبيرية الموغلة في العمق ليبث مشاعره، ويعلن عن التضامن العاطفي لكل حدث داخلي أو خارجي، وهو-هنا- يحوّل الخطاب إلى نوع من التماسك الوطني، وإلى جسر يربط الإرادة بالطموح والإرادة.
وللالتزام بمستقبل زاهر نصيب وافر في خطابات سموه: «نعمل على تحقيق كافة مستهدفات رؤية 2030.» لأنها قرارات مصيرية تغير خريطة الاقتصاد المحلي والمجتمعي وهذا يعكس أعلى درجات السلطة والفاعلية في خطاباته.
كل هذا يخلق إطارًا عمليًا لالتزامات المملكة العربية السعودية، ويجسد العلاقة بين اللغة والسلطة، وأن الخطاب ليس مجرد وسيلة تعبير بريئة، بل هو «ممارسة» تنطوي على علاقات قوة.
فالخطاب هو «النظام» الذي ينتج المعرفة والحقيقة، ومن يسيطر على الخطاب يسيطر على ما هو «شرعي»، و»طبيعي». والسلطة قوة منتجة تُشكّل الذوات وتُنظم المعرفة. لأن كل مجتمع لديه «نظام للحقيقة» خاص به، وبهذا يكون الخطاب الملكي ليس رأياً من بين آراء المجتمع الدولي؛ بل هو تحديد رسمي ومعياري «للحقيقة» في السياق المحلي والدولي، هكذا خطاب «يُنتج الحقيقة» حول هوية المملكة (دولة السلام والدعم للقضايا العادلة) ويسهم في إنتاج «الذات السعودية» إذ يصور المملكة كـ «دولة قائدة»، «وسيط عادل»، «داعم ثابت للقضية الفلسطينية»، «حاضنة للسلام». هذه ليست صفات، إنما هي هوية تُنتج وتُكرس عبر التكرار في الخطابات الرسمية، ولهذا أسلم خطاب سموه إلى إنتاج عملي تمثّل في الحصول على إجماع حول القضية الفلسطينية، مما جعل الدعم لها أمراً «بدهياً» و»طبيعياً» داخل المجتمع السعودي والدولي، وهو أعلى أشكال ممارسة السلطة عندما تصبح المبادئ غير مرئية لأنها أصبحت جزءاً من المنطق السائد.
بهذه الطريقة، تحوّل خطاب سموه بلغته الجريئة المباشرة من كلمات إلى سياسة فعلية، ومن رأي إلى حقيقة مؤسسية راسخة، فالمؤسسات هي التي تضمن استمرارية خطاب السلطة وتكراره، مما يمنحه الاستقرار والقوة.
وعليه فالخطاب من المنظور الفوكوي يصبح آلة لإنتاج الحقيقة، آلة لصنع الهوية، آلة لتوجيه السلوك عبر مؤسسات الدولة لضمان سيادته واستمراريته. واللغة -هنا- وفقًا لهذه الرؤية، هي الحقلَ الجوهري الذي تُخاض عليه الصراعات السياسية والرمزية فهي بيت الوجود بتعبير هايدجر. لأن الهيمنة على الخطاب تعني السيطرة على آلية تعريف الواقع وتشكيله، مما يجعلها أرقى أشكال ممارسة السلطة في السياق المعاصر. وبذلك، تجاوز خطاب سموه كونه مجرد بيانٍ دبلوماسي، ليشكل أداة فاعلة في إنتاج عالم رمزي وقيمي يبني ويؤسس لشرعيتها؛ إنه يصوغ الإطار الذي تريد المملكة أن تُرى من خلاله، وأن تفهم ذاتها فيه، وأن تُفهم به في المحافل الدولية.
أما إذا نظرنا إلى خطابات سموه من زاوية أركان النظرية التداولية، ومن خلال المفاهيم الفلسفية التي تؤمن بفكرة التضمين الحواري فإن الإطار التداولي لخطاب سموه يجعل منه ليس مجرد فرد، بل هو صوت الدولة كلها، مما يمنح كلمته ثقلاً هائلاً ونطاقاً تداولياً واسعاً، وبغض النظر عن المخاطَبين أو المتلقين سواء بصفة داخلية أم خارجية، مباشرة أو غير مباشرة. فإن المخاطَب الضمني هو عنصر أساسي في تداولية الخطاب السياسي وهو الذي يشار إليه في العمق، ويتجسد المخاطب الضمني -هنا- فيما يمكن وسمه بـ«التاريخ» الذي يسجل ويُدوّن كل إنجازات هذه المرحلة. لذا مثّل الخطاب الملكي السياسي في بنيته التداولية العميقة، حقلًا جدليًا تستبطنه اللغة، ويتجلى صراعٌ ضمني بين نمطين سرديين: التاريخ الأحادي القائم على المخزون النفطي، والمستقبل المتعدد القائم على تنويع القاعدة الاقتصادية. وعليه: يمكن تفسير خطابات سموه بوصفها عملية «تفاوض لغوي معقد» تهدف إلى التوفيق بين هويتين: هوية موروثة تتمثل في الاقتصاد الأحادي، وهوية مرسومة ومتخيلة تسعى لبناء اقتصاد إنتاجي قائم على المعرفة والتجديد والابتكار.
ومن المنظور الفلسفي، تجسّد هذه الجدلية - أيضا - تحولاً جوهريًا في المفهوم الوجودي للاقتصاد الوطني، حيث يتم الانتقال من فكرة «الماهية الثابتة والمغلقة» - التي تُختزل في مورد واحد - إلى فكرة «الصيرورة الجدلية والمفتوحة» التي لا تستقر على حالة ثابتة. فلم يعد الاقتصاد كيانًا محددًا بجوهر ثابت؛ بل أصبح اليوم على يديه وبفضل سياسته عملية ديناميكية قيد التشكّل المستمر، وهو ما ينعكس في الخطاب كسيرورة لغوية تنتج واقعًا جديدًا عبر تفكيك الثنائيات التقليدية وبناء أطر مفاهيمية مرنة تستوعب تناقضات المرحلة الانتقالية القادمة وتعزز رؤية المملكة القادمة 2030.
هذا على مستوى البنية الجدلية الفلسفية للخطاب، ومن خلال إسقاط هذه الرؤية التداولية الفلسفية، يتجلى لنا أن الخطاب السياسي لسمو ولي العهد ليس مجرد نقل للمعلومات، بل هو (قول/ فعل) استراتيجي معقد يهدف إلى بناء الشرعية عبر أفعال الكلام التوكيدية والتعبيرية التي تظهر النجاح وتشارك المشاعر، لتعزيز الثقة والولاء، وخارجياً لتقديم صورة المملكة العربية السعودية بوصفها قوة اقتصادية وسياسية مستقرة وطموحة. واستشرف سموه المستقبل من خلال عباراته الجازمة التي تجلت فيها الأفعال التوكيدية والتعبيرية والتوجيهية التي لا تعلن عن المستقبل فحسب؛ بل تخلقه وتلزم الأمة به، كل هذا لأجل تشكيل الهوية الجماعية عبر استخدام ضمير الجمع بشكل مكثف، مما يذيب الفوارق بين القيادة والمواطن ويخلق إحساساً بالمصير المشترك مستفيدة من السلطة الرمزية والسياسية للمتحدث لتحقيق أكبر أثر تداولي ممكن.