اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
تكيفاً مع المستجدات ومواكبة للأحداث الجارية كتبت عن الدولة العبرية مقالات كثيرة، وتناولت الموضوع من زوايا مختلفة تفادياً للتكرار الممل وانسجاماً مع المستجدات والأحداث الجارية.
وقد دفعني إلى التكرار وكتابة هذا المقال ردود أفعال بعضهم على ما أعلنه رئيس وزراء الكيان الصهيوني بأنه مهتم برؤية إسرائيل الكبرى، ويسعى إلى تحقيق ذلك، مما يوحي بأن هناك مَنْ لا يدرك ما يتربص بالأمة من مخاطر أو تفاجأ بهذا التصريح نتيجة لانحرافه عن الطريق واستغراقه في سبات عميق.
وهذا التصريح لم يكن موقفاً شخصياً ولا حالة نادرة أو فكرة عابرة، بل هو مشروع صهيوني يعود إلى عقود زمنية حافلة بعمليات الإحلال والإبدال والتغيير الجغرافي والديمغرافي عن طريق العمل العسكري والاستعمار الاستيطاني والعمل السياسي.
وقد تطرق إلى هذا المشروع الكثير من زعماء الكيان الصهيوني، وفي مقدمتهم مؤسس الكيان «هرتزل» الذي قال: إن سيادة إسرائيل من الفرات إلى النيل، والأب الروحي لليمين المتطرف «جابوتنسكي» الذي وصف العرب بالأعداء وقال: لإجبارهم على التعاون معنا نحتاج إلى سحقهم تحت أقدامنا.
ويخضع تنفيذ المشروع للفكر الصهيوني الذي يعتنق نظرية الشمول في التخطيط والمرحلية في التنفيذ بحيث يتم تصنيف الأهداف الاستراتيجية وتحديد ما هو الأقصى الآجل، والأدنى العاجل، ويعتبر تهويد الدولة واتساع مساحتها على رأس قائمة أولويات هذا المشروع منذ تأسيس الكيان وحتى الآن.
والزعيم العلماني الصهيوني شأنه شأن الزعيم المتدين بالنسبة للمشروع الذي تحاول الدولة العبرية من خلاله الاسترشاد بالتعليمات الدينية والتوجيهات الصهيونية في سبيل الاستيطان والتوسع في أراضي الدول المجاورة حيث يلتقي البعد الديني والأطماع الجيوسياسية على طريق الأرض الموعودة بين الفرات والنيل.
والديانة اليهودية تمثل مصدراً للنظرية الصهيونية وعلى أساسها رسم اليهود مسارهم واختاروا خيارهم المتمثل في الفكر الصهيوني الذي تشكل التوراة جذوره وترسم النظرية الصهيونية أصوله.
وقد حّول الصهاينة الوعد الديني المزعوم والمشروع التوراتي المرسوم إلى مخطط صهيوني سياسي وعسكري واستيطاني احتلوا بموجبه أرض فلسطين، معتبرين ذلك مهمة إلهية وقضية دينية.
وأطماع الصهيونية لا يحدها حدود ولا يقيدها قيود، فهي لا تكتفي بما احتلته من فلسطين، بل تستبيح أي أرض تستطيع قواتها المسلحة الوصول إليها واحتلالها عن طريق العمل العسكري والاستعمار الاستيطاني، ومن ثم تحويل ذلك إلى واقع سياسي وأمر مفروض يتجسد في وجود كيان عنصري يمثل قاعدة ومنطلقاً لمزيد من التوسع والسيطرة حتى تتحقق الغاية الصهيونية النهائية بجميع جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وصولاً إلى قيام دولة اليهود الكبرى.
ولتحقيق هذا الحلم حددت الصهيونية الوسائل والأساليب الكفيلة بخلق بيئة جغرافية وديمغرافية تجمع بين العمل العسكري والاستعمار الاستيطاني والعمل السياسي على نحوٍ يضمن خدمة كل منها للآخر في سبيل فرض الأمر الواقع وتوسيع نطاق الاحتلال ومد مجالاته لكي يصل إلى غايته البعيدة.
وبما أن الغاية تبرر الوسيلة فليس ثمة فرق بين الحرب في مفهومها المتعارف عليه وبين الإبادة الجماعية، ولعل ما حدث في الماضي ومازال يحدث في الحاضر من أساليب وحشية وعقاب جماعي ضد الفلسطينيين في غزة والمناطق المحتلة أبلغ دليل على اتباع الخلف سياسة السلف التي تهدف إلى قتل البشر وتدمير المقر علاوة على سياسة الحصار والتجويع وما يترتب عليها من محاولات التطهير العرقي والتهجير القسري.
وتلجأ الدولة العبرية إلى الحرب لبلوغ غاياتها وضمان نجاح واستمرار مخططاتها، معتنقةً الشمولية في التخطيط والمرحلية في التنفيذ، وذلك طبقاً لعقيدتها الدينية وموروثها التاريخي ومذهبها العسكري مع اعتبار القوة فوق الحق، واستخدام هذه القوة ضرورة حتمية لنجاح النظرية الصهيونية وبلوغ الغاية النهائية.
وقد اعتادت الدولة العبرية على تغليف أعمالها العدوانية بغلاف من المصطلحات الأمنية مثل: الدفاع عن النفس وأمن الحدود ناهيك عما تتذرع به من ذرائع تتيح لها استخدام القوة العسكرية في أي موقف من المواقف.
ومنذ أن تأسست الدولة العبرية برعاية الحركة الصهيونية وحماية قوى الاستعمار والامبريالية وهي تعمل ما بوسعها لتثبيت كيانها وتكريس استيطانها واستمرار عدوانها، تنفيذاً للمخطط المرسوم وتحقيقاً للحلم المزعوم اللذين يلتقيان عند احتلال واستباحة الأرض الفلسطينية والتوسع على حساب دول الجوار.
ولم يعد الأمر مجرد حلم ديني أو نظرية صورية، بل تحول مع مرور الوقت إلى مشروع سياسي متكامل الأركان يهدف إلى تعزيز الاستيطان وتوسيع حدود الدولة العبرية والعمل على تهويد وتنامي فكرة دولة اليهود الكبرى، وتعميم هذا المصطلح وتحريكه، بوصف التوسع الإقليمي لم يكن سياسة عابرة بل يشكل استراتيجية أساسية ذات أهداف بعيدة.
وخطورة هذا المفهوم تكمن في تسييسه وبرقماتيته وأدلجته عن طريق استخدام النصوص ذات الطابع الشرعي لإضفاء صبغة أخلاقية على مشروع استيطاني استعماري، بعيد كل البعد عن الشريعة والأخلاق بالشكل الذي عقد القضية وأضاف إليها بعداً دينياً يطيل أمدها ويبرر الاستيلاء على أراضي غيره بناء على حجج باطلة وذرائع واهية.