أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
في زيارتي الأولى للشام التي بسطتُ بعضَ خبرها في مقالة سابقة، عرّجت على مواقع سياحية، وآثار قديمة، أشهرها الجامع الأموي الذي صلّيت فيه بضع صلوات، وتنَشّقتُ في أبهائه رَوحَ الزمان الغابر، وكدتُ أقف عند كلّ زاوية، وأستندُ إلى كلّ جدار، وأطوف بكلّ سارية، متأمّلًا متفكّرًا، وشعرتُ به يناجي زوّارَه هامسًا، شاكيًا غربتَه، متحسِّرًا على من أنشؤوه وعمروا جنَباتِه، وعلى من قطّعوا ليلَه تسبيحًا وقرآنا، وسمعت صوت شوقي:
مررتُ بالمسجد المحزونِ أسأله
هل في المصلّى أو المحرابِ مروانُ؟
تغيّر المسجدُ المحزونُ واختلفتْ
على المنابرِ أحرارٌ وعُبدانُ
فلا الأذانُ أذانٌ في منارتِه
إذا تعالى ولا الآذانُ آذانُ
ومن وحي هذا المسجد العظيم أنشأت قطعة قلت فيها:
في الجامع الأمويّ صرتُ يمامةً
ورقاءَ يصفقُ بالحنينِ جناحُها
مذعورةَ اللفتاتِ مائرةَ الهوى
ينسابُ بين الراكعين صُداحُها
لم تلقَ وكرًا يستجيبُ لنَوحِها
فانبتَّ في رهَقِ الظنونِ نُواحُها
ستعودُ أدراجَ الرياحِ لعلها
يومًا تبادلُها الشعورَ رياحُها
لا ليلُها المسعورُ يفني شوقَها
وعساه يضحكُ للصباحِ صباحُها
ومن المواقع التي زرتها المكتبة الوطنية (مكتبة الأسد سلفًا)، وقلعة دمشق وقصر خالد العظم، وأحد الحمامات العتيقة، وجُلتُ في بعض الحارات القديمة ذات الأزقة الضيقة، والبيوت العربية المتجاورة، وتناهتْ إليّ أصوات من فيها، ودنتْ إليّ من الدهر قطعة هاربة، تغري بوصالها وتُدِلُّ بجمالها، شعرتُ أني دخلتُ في كتاب التاريخ، وجُستُ خلال الزمان، وسمعتُ حسيسَ الغابرين، وأصغيتُ إلى قصائدَ وخطبٍ لها دويٌّ لم ينقطعْ إلا بخروجي من تلك الحارات، ريّانَ الأذن والعين والقلب.
وكذلك عرّجتُ على دَير سيدة صيدنايا، وهو بناء قديم جدًّا، يُقدّر بناؤه في القرن السادس الميلادي، كذلك زرت بلدة (مَعْلولا) إلى الشمال الشرقي من دمشق بنحو ستين كِيلًا، وهي غريبة الموضع، إذْ بُنيتْ في كنف جبل كأنها لائذةٌ به من صروف الدهر، وجُلّ سكانها نصارى يتكلمون مع العربية بالآرامية التي يُقال: إنها لغة المسيح عليه السلام، وفي الطريق إليها، وقبل أن نصعد الطريق الجبلي المفضي إلى (دَير مار تِقْلا البطريركي)، وكان بصحبتنا الدكتور عادل الفريجات، استوقفتْنا امرأة نَصَفٌ، وطلبتْ إيصالها إلى الدَّير، فركبتْ معنا، وإذا هي من أهل البلدة، ولما دخلنا الدَّير دخلَتْ معنا.
لحظتُ أن الباب الذي يُدخَل منه متطامنٌ جدًّا يَضطرُّ الداخلَ منه إلى أن يحني ظهره، كالراكع، فركعت ودخلت بالجنب؛ لئلا أدخل راكعًا وأنا أواجه الصُّلبان المنصوبة في واجهته، مقتديًا بالقاضي الباقلاني الذي وقف مثل هذا الموقف، وكان يهمّ بالدخول على ملك الروم، فما كان منه إلا أن استدبر الباب ودخل! ولم تكن فيَّ شجاعتُه فأستدبرَ الصُّلبان.
ولما مررت ببهو الدَّير وقفت على بعض الباعة، الذين يبيعون ما يصلح للذكرى، من أنواط وتحف ونحوها، وهممتُ بأن أشتري ما يتيسّر، فلم أجد شيئًا خاليًا من الصلبان، فتركتها.
وبعد جولة في أنحائه قعدنا في إحدى غرفه، نتحدث مع اثنين من القائمين على الدَّير، وبينا نحن كذلك، إذْ أشعل السائق سِجَارة، فالتفتت إليه المرأة التي حملناها معنا، وقالت رافعة صوتَها: (هيك!) وظننتها ستنهره لأنه يدخّن داخل الدَّير، ولكنها أردفتْ: (هيك بتدخّن وما تباشر!) فأعطاها واحدة!
وفي هذه البلدة الغريبة زرنا كهفًا في شِقّ جبل البلدة، وفيه عين تنزّ من أعلاه، وتقطر طَوال العام، زعموا أنها دموع القديسة تِقْلا، ووجدتُ جماعة يتبركون به من النصارى. وفي نواحيه ما قيل إنه كان غرفًا للرهبان محفورة فيه.
وفي زيارتي هذه أظلّنا عيد الأضحى، فطلبت من السائق أن يمرّ بي فجر العيد لنصلي صلاة العيد في الجامع الأموي، فلما جاء في الموعد، أخبرني أن الطرق إلى الأموي مسدودة والتفتيش فيها مربِك، لأن (سيادة الرئيس) سوف يصلّي العيد فيه!
فذهبنا إلى جامع محيي الدين بن عربي في الصالحية، الذي يسمى أيضًا جامع الخنكار، وهو على ضفاف نهر يزيد أو نُهيره، وفي طريقنا إليه لحظتُ رجالًا يقفون عند رؤوس الشوارع وفي التقاطعات بألبسة مدنية، ولا يفعلون شيئًا سوى التطلع يمينًا وشمالًا، فهمس السائق (مخابرات).
ولما خرجنا من الجامع، قال السائق وقد عرف حبي للاطلاع وشغفي بالتفرّج بما لم أعهد: إن من عادة الناس زيارةَ القبور بعد الصلاة، فما قولك أن نذهب لترى؟ فأومأتُ أنْ نعم، وذهبنا إلى مقبرة قريبة أظنها (مقبرة الشيخ خالد)، وفيها رأيت جمهورًا من الناس يتقاطرون عليها، ومع كل منهم حُزمة آسٍ يضعها على قبر المَزُور، والآسُ نبات طويل الاخضرار، قال ابن زيدون:
لا يكن عهدُك وردًا
إني عهدي لك آسُ
وإنما يضع الناسُ غصونَ الآس، على ما أظنُّ تأسّيًا بالنبي ? الذي مرّ بقبرين، فأخذ جريدة رطبة فشقَّها نصفين، ثم غرز على كلّ قبرٍ واحدة، وقال: لعلّه يُخفّف عنهما ما لم تَيْبسا. غير أني رأيتهم يبالغون في ذلك، ويحرصون على رشّ القبور وغرز الكثير من الآس في جوانبها، أو رميها على بلاطة القبر، وأنا واصفٌ لا مفتٍ.
وإلى هذه العادة يشير الناس في سورية في دعائهم لمن يحبون، إذْ يقولون: (تُشْكُلْ آسي)، أي أدعو بأن أموت قبلك، فتزور قبري، فتضع عليه الآس. ولعلهم أرادوا بـ(تُشكُل) أن تُضَمَّ شكُول الآس بعضُها إلى بعض.
وكنتُ وعدتُ السائقَ أن أفطرَ معه في بيته صبيحة العيد، رغبةً في التعرّف إلى عادِهم في هذا اليوم، فكان أن عرّج بنا على بيته في حي المهاجرين، ثم ضيّفني إفطارًا شاميًّا حلوًا، وتناهى إلى سمعي صوتُ الشيخ السُّديس يلقي خطبة العيد من الحرم المكي، فسألت السائق فأخبرني أن أمّه كثيرة الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم التي تُبثّ من الرياض.
ومن طريف ما وقع أني جُلتُ في السوق المجاور لمسجد محيي الدين ابن عربي، ثم صليت فيه المغرب، فجاذبت الحديث رجلًا عليه سيما التديّن، وعَلِم من محاورتي أني أدرس أدب جبري، فقال: لماذا لا تدرس الشيخ ابن عربي؟ فهو أفضل لك، قلت: لماذا؟ قال: (إنه أكثر إشعاعًا).
كانت رحلتي الدمشقية الأولى تجربة بالغة الأثر في نفسي، وفي تكويني العلمي والثقافي، وكان أجلى ما استوقفني فيها ما رأيته في علماء الشام وأدبائها من حبّ نفع الآخرين، إذ كان أحدهم لا يدعُني حتى يصلَني بآخر يفيدني، وهكذا انطلقت من شاكر الفحام في سلسلة من الرجال الكرام حتى انقضت أيام الرحلة، وظلّت أسماؤهم جميعًا مقرونة بالذِّكر الجميل.
وكان من الوفاء لتلك الكوكبة أن دبّجتُ مقالة بعنوان (سلام عليكم يا أهلَ دمشق) سلّمتها لعيسى فتوح، فنشرها في مجلة (بُناة الأجيال) وكان مديرًا لتحريرها، ولكنه غيّر عنوانها فجعله (انطباعات كاتب عن أهل دمشق).
ومن لطائف ما وقع أن حَظِيتُ بالسُّكنى في فندق جيد، متواضع المبنى قديمِه، ولكنه نظيف هادئ ملائم لقدرتي المالية آنذاك، اسمه (فندق الفراديس).
ولما أزمعت الرحيل داعبتُ موظفيه مخاطبًا إياهم بأبيات كتبتها في ورقة وسلمتها لأحدهم، فهَمْهم لما قرأها هَمْهَمةَ المعجَب، وفيها:
إلى (الفراديسِ) جئنا والهوى أَلِقٌ
وقد حمدنا مُقامًا في (الفراديسِ)
كم فندقٍ تتمنى أن تغادرَه
مستعجِلًا للذي تلقاه من بُوسِ
لكنّ ذا الفندقَ المِضيافَ خيّل لي
أني أعيش بداري عيشَ مأنوسِ
أخلاقُ أصحابه عطرٌ وشيمتُهم
أُنْسٌ فليسوا بأقوام مفاليسِ
وتفاءلتُ بأن هذا الموظّف سيصيح: (يا غلام، اجعل سكنَه عندنا مجانًا). ولكن خانني الفأل هذه المرّة.
كنتُ كتبتُ يومياتي في دمشق، وما زالت مخطوطةً عندي، ومنها استقيت هذه الذكرى التي ذكرتُ فيها بعضَ ما لقيت وأعرضت عن بعض، ومما رقمتُه في آخرها، وأنا في مطار دمشق أتهيّأ للعودة:
«أحسستُ هذا اليوم بشعور غريب تُجاه دمشق، وعزّ عليّ فراقُها، وددت لو أن اللقاءَ طال:
خلقتُ أَلوفًا لو رجعتُ إلى الصبا
لفارقتُ شيبي مُوجَعَ القلبِ باكيا
وداعًا دمشقَ الإسلام، وموطنَ التاريخ، ومستَهَلّ الأمجاد، وداعًا دار معاوية وعبدالملك، إلى لقاء قريب، وقد ردّ الله غربتَك، وأدالك على كلّ عُتُلّ جبّار. فرغت من هذه اليوميات في 12 من ذي الحجة سنة 1412هـ».