د.محمد الدبيسي
واستمرَّ الأنصاريُّ يخطو بمجلته خطىً حثيثةً وثَّابةً قَلِقةً، نحو الذيوع والانتشار وبلوغِ المرام، وباركها جيلُ الأنصاري من أدباء الرعيل، وأثْرَوا أعدادها بإنتاجهم. وكان حفيًّا بهم، مستيقِنًا أنَّ نجاحَ المجلةِ، وذيوعها، وديمومة أثرها؛ مرهونٌ بتفاعلهم معها، ومساندتهم إياها، ومنهم أدباء المدينة المنورة ومثقفيها، الذين وُلدتِ لمجلة بين ظهرانيهم، فحفلوا بها، وباركوا مسعاها، يقول الأستاذ أمين مدني (ت 1404هـ =1984م)، مُبتهِجًا بصدورِ أوَّلِ أعدادِ المجلة: «وأيُّ شعورٍ لا يفيضُ، وأيُّ عاطفةٍ لا تجيشُ في مدنيِّ؛ يقرأُ بُشرى ظهور مجلةٍ أدبيةٍ، يُظهرُها أديبٌ مَدنيٌّ، ويَكتبُ فيها الشَّبابُ المدنيُّ، معلنًا للعالم ِالعربي حيويَّتَه، ومُنبِّهًا بوجودِ عِلمٍ وأَدبٍ في بلدِهِ»، واستمر صاحبُ المنهل، يستكتبُ الأدباءَ للنشرِ فيها، ويختارُ لهم الموضوعاتِ أحيانًا، ويترك لهم اختيار ما يروقهم منها أحيانًا أخرى، واستحالتِ الخُطى الوثَّابةُ القَلِقةُ، إلى يقينٍ متروٍّ يؤزُّهُ الحماسُ ذاتُهُ، والطموحُ عينُهُ، والرؤيةُ نفْسُها.
واستحدثَ فيها بابًا سمَّاه: (استفتاءات المنهل)، يختارُ له في كلِّ عددٍ موضوعًا محدَّدًا، ويُكاتبُ الأدباء في ذلك الموضوع، ثم ينشر إجاباتهم، وحقَّقَ بواسطته رواجًا للمجلة، وحيويةً في طروحتها، حيث وصلتْ إلى عديدٍ الأقطارِ العربيةِ والإسلاميةِ، بُعيدَ سنواتٍ من صدورها، وكتب فيها نفرٌ من روَّادُ النهضةِ العربيةِ، واتَّصلوا برئيسِ تحريرها، وتوطَّدت علاقتُهُ بهم بواسطتِها، واضحتْ لسانَ حالِ الأدبِ في بلادنا، ومن المَظَانِّ الذي يركنُ إليه طلَّابُ المعرفةِ فيها، لينهلوا ممَّا تحتويه صفحاتُها وأبوابُها، من ألوانِ الأدبِ وصنوفِ الثقافة.
ومن يطالع بابَ بريد قرائها، أثناء (الثلاثين) عامًا الأُولى من صدورها؛ يلحظُ أنَّها كانت مَطلبًا لخاصَّةِ أهل العلمِ والثقافةِ، ومقصدًا لعامَّةِ جمهورهما، ولا سيما المهتمُّونَ منهم بالأدب وقضاياه، وكانت المنهلَ الذي يردِونَهُ لمعرفة عُمومِ مسائله، ومطالعةِ نماذج من أجناسِهِ، أو عَلَمٍ من أعلامِه، أو استبانةِ قضيةٍ أدبيةٍ أو ثقافيةٍ أشْكَلَتْ عليهم، وعليها يعوِّلونَ في تكوين ثقافتهم الأدبية، وزيادة محصولهم العلمي والثقافي بصورةٍ عامةٍ. واستمرَ بابُ (بريد القُرَّاء) في المنهل، طيلة تولِّي الأنصاري رئاسة تحريرها، وكانت تصلُهُ رسائلَ العلماءٍ والأدباءٍ، وعامةِ القُرَّاء، من المملكة ومن بعض الأقطارِ العربية، والأجنبية، وكان ينشرُها كاملةً، ويجيبُ عنها، وبعضها يطلبُ مؤلفَّاتِه، أو مؤلَّفَاتِ غيره، فيجيبُهُ، ويبعثُها إليه. وكان البابُ يحفَلُ برسائلِ علماءً كبارٍ من مختلف الأقطار، مثل الرسالة المطوَّلة التي بعثَ بها العالمُ المغربيُّ، محافظُ خزانة القرويين، محمد العابد الفاسِي الفهري (ت1395هـ=1975م)، للأنصاري، ونشرها في عدد شهر صفر/1389هـ =إبريل/1969م، ص 208-210، وبعد أن أثنى الفاسي على المنهل ومحتواها، وما أفادَهُ من مباحِثِها، وزَكَّى جَليلِ الدَّورِ الذي تقومُ به في خدمةِ التُّراثِ والمعرفةِ والعلوم، وفاخَرَ بـــ(الصِّلةِ العِلميَّةِ والروحيَّةِ، التي تجمعُهُ برئيسِ تحريرها)، ثنَّى بطلبِ رئيس تحرير المنهل؛ كتابةَ مقالةٍ عن العالمِ والأديبِ المدني عبدالجليل برَّادَة (ت1327هـ=1909م )، فاستجابَ الأنصاريُّ، وأحالَ الطلبَ إلى صديقه الأديب عبيد مدني، الذي كتبَ مقالةً قَيِّمَةً جامِعَةً في ترجمةِ برَّادة، نُشرت على حلقتين، أولاهُما: في مج 21، ربيع الأول/1389هـ = مايو/1969م، ص360-364. وقد أثنى عليها الفاسي، وأشادَ بقيمتها ونفاسةِ ماورد فيها من معلوماتٍ حول البرَّدَة، واستزادَ مدني في الحديثِ عن جوانِبَ أخرى، حول البرَّادةَ، وهجرته إلى الحجاز، واستيطانه المدينة المنورة، فأجابَ مدني بمقالةٍ أخرى متمِّمَةٍ، نُشرَت في مج21، جمادى الأول/1390هــ = يوليو/1970م، وقد ظلَّتْ مقالة عبيد مدني بجزئيها؛ الأثرَ الوحيد، الذي يحيلُ إليه الباحثون والدارسون، فيما يتعلق بأدبِ البرَّادَةِ وشعرِهِ، ونشاطِهِ العلمي، وندوتِهِ الأدبيةِ الشَّهيرة. ومثلُ رسالةِ الفاسي؛ رسائلَ أخرى من علماءَ في طبقته، كانتتصلُ المنهل، ويُعنى بها صاحبها عنايةً مُثلى.
وكان صاحبُها مغتبطًا بهذه الحال، مزهوًا بها، حفيًّا بكلِّ ما يسهم في شيوع المجلة، واستمرارِها، واعٍ بالمنزلةِ التي صارت إليها، وصاحبُها، يقول: «وهي بحقٍّ أحدُ مراجعَ العِلمِ والثقافةِ، والاقتصادِ، والاجتماعِ والعمرانِ، والتاريخِ والأدبِ، والتطورِ السِّياسيِّ لهذه البلاد»، وقد كانت كذلك، واستمرتْ إلى نهايةِ العَقْدِ (الثاني) من القرن (الخامس عشر) الهجري، بالمثابةِ نفسها من جودةِ المضمونِ وثرائه، وتنوُّعِ الأبوابِ والموضوعاتِ، ونوعية الكتَّابِ، وأقدارِهمِ في موازين العلم .
ولم تنافسُها مجلةً أخرى في مسألة اختصاصِها الأدبيِّ، وتنوُّعِ مباحثها الثقافية، حتى بدأت مجلاتٌ أدبيةٌ وثقافيةٌ أخرى بعدها، بالظهور والانتشار، ومشاركة المنهل العنايةَ بالأدب، والاهتمام بقضايا الثقافة، كـمجلة الحج، التي أُنشئتْ عام 1366هــ =1947م، ومجلة القافلة التي أُنشئتْ عام1373هـ =1953م، والمجلة العربية التي أُنشئتْ عام 1395هــ=1975م، ومجلة الفيصل الثقافية، التي أُنشئتْ عام 1397هـ =1977م، وكان لهذه المجلاتِ دورٌ مشهودٌ في إثراء لحركة الأدبية والثقافية الوطنية، ولأثَرِها امتدادٌ وأبعادٌ في بعض البلاد العربية، التي أقبلَ أنفارٌ من مثقفيها على الكتابةِ في هذه المجلات، ممَّا عضَّدَ دورها الثقافي وعزَّزَهُ، وأكسبَها مزيد مشروعية معرفية، وتفاعلًا من المعنيين بالثقافة وقضاياها؛ ما انفكَّتْ تلك المجلاتُ تنشُدُه وتسعى إليه، وتعمل لأجْلِه.
بيد أنَّ المنهلَ كان لها دورُ التأسِّيس، وإقامة اللبنات الأُولى في هذا الجانب، ومراكمته كمَّا ونوعًا، ويفصلُ بينها وبين أقْدَمِ تلك المجلات في الصدور، وهي مجلة الحج عَقْدٌ من الزمن، وإلى ذلك، يقول الدكتور عبدالرحمن الشبيلي: «فالمنهلُ أوَّلُ مطبوعةٍ صحفيةٍ سعوديةٍ في المدينة المنورة، وأمُّ الصُحُفِ الأدبيةِ الثقافيةِ، وأقدمُها، وأطولُها عمرًا، وثالثُ مطبوعةٍ بعد جريدة أم القرى، ومجلة الإصلاح»، و»شيخةُ المجلات السعودية»، كما يصفها صاحبُها، وكان لصدورها في وقتٍ مبكرٍ دورٌ في أن تكون كذلك، وأن تتخذ مكانتها الرائدة عند أبناء جيله، ومن جاء بعدهم من أجيال، وعند قُرائِها ومُتابعيها، وفي رسوخها في الذاكرة الوطنية، وتأكُّدُ قيمتها الرمزية في هذا الجانب، فضلًا عن أهميتها الثقافية والمعرفية.
إنَّ من يُطالع افتتاحيات المنهل، التي دأبَ الأنصاريُّ على كتابتها، أثناء تولِّيهِ رئاسة التحرير، يلحظُ- فضلًا عن ديباجتها الأدبية، ورصانة لغتها، ورُقي أسلوبها - جوانبَ من تاريخ المجلة ومراحل تطورها، كما جاء في عناوين تلك الافتتاحيات الحوليَّةِ: (المجلة في عامها الثاني، فالثالث، فالرابع.. حتى العاشر..)، إلى أن وصلت ربع قرنٍ، فنصفه، فزيادة، ويلحظُ الزهوَ العارمَ والفخرَ الكبير، الذي يحيطُ الأنصاريُّ به هذه المحطات والمراحل، في مسيرة المنهل. ولم يكن ذلك فرطُ حماسٍ عاطفيٍّ لمُنجزٍ شخصي، بل اعتدادٌ حكيمٌ، ويقينٌ بأهميةِ الرسالة التي هُيءَ له أن يُبلِّغَها بواسطة المجلة، وكانت مضامينُ المنهلِ وأبوابُها؛ متنَ الرسالةِ وجوهرَها، وثمرتَها، وأثرَها الخالدِ في مسيرةِ الأدبِ والثقافةِ والفكرِ في بلادنا.
فالمنهلُ المعنيةُ بالعلم والأدب والتراث، ثم بالمعرفة والعلوم، في تلك المدة، وما بعدها، أخذت سياقًا متدرجًا في النُّموِ والامتدادِ، والفاعليةِ والتأثير، صانتها همَّةٌ دؤوبةٌ لرائدٍ وطني، وعى الواقع الثقافي آنذاك، واستشرف مستقبله، ورأى خُلوَّ الساحةِ الوطنيةِ من وسيلةٍ أدبيةٍ عصريةٍ، تأخذُ بأيدي الأدباء، وتُعلي شأنَ الثقافة، وتبثُّ الوعي بأهميتها، وتكون مشهدًا للأراء، وشريانًا ريَّانًا للفعل الأدبي والثقافي الحيوي؛ فأنشأ المنهلَ، لتكون تلك الوسيلة.
وقد شهدتْ إبان حياةِ الأنصاري، ربيعًا امتد نحوًا من (خمسين) عامًا، إلا قليلًا، فاحتفل بيوبيلها الفضي، وإبَّانه وقفَ واستوقفَ، وابتهجَ وفاخَرَ. وقارب أن يشهد يوبيلها الذهبي، إلا أنَّ يد المنون اخترمته، قبل ذلك بعامين اثنين. وكان حاضرًا بسيرته ومنجزه في العدد الذهبي، الذي أصدرته المنهل احتفالًا بذلك اليوبيل .
وكاد عمر المنهل يُطاول قرنًا من الزمن إلا (عشرة) أعوامٍ ونيفٍ، لو لم تتغشَّاها عوادي الدهر، بعد أن قضى الوالدُ لمؤسِّسُ، ثم الابن الوريث، فتكالبتِ المشاقُّ وأثقالُ المسؤوليةِ على الحفيد، الذي ما فتِئ يسعى ويُكابدُ، ويستفرغُ وسعه للمحافظة على الإرثِ الذي آلَ إليه من آبائه، وإنمائه، ويحفظُ له مكانته، حتى وإن خفتَ وهجه، في عصرٍ مختلفٍ وأحوالٍ مغايرةٍ، وفروضٍ عصريةٍ قاسيةٍ، تواجهها إدارة المطبوعات الصحفية، وتقتضي رافعةً مؤسسيةً تنهضُ «بمجلةٍ تعدُّ أعرقَ وأقدمَ مجلةٍ أدبية عربيةٍ، تقاومُ من أجل البقاء، وقيمةً مهمةً ورأس مالٍ رمزيٍّ لحركة الثقافة السعودية، وذاكرةً أدبيةً وخزَّانًّا لذكريات المجتمع السعودي، خلال تحوُّلاتِه الأدبيةِ في الفنونِ المختلفة»، كما يقول الناقد والمؤرخ الثقافي حسين بافقيه.
ب: مجلةُ المنهلِ، السِّياقُ والنَّتائِج:
زَامَنَ إنشاء المنهلِ كمشروعٍ صحفيٍّ ثقافيٍّ؛ حقبةَ اكتمال توحيد البلاد السعودية، في شبه الجزيرة العربية، وقيام الدولة الوطنية فيها، وتسميتَها المملكة العربية السعودية، وانتساب الإنسان: المواطنين، والإنتاج الثقافي والفكري إليها؛ مُنْتَمَىً وطنيًّا له دلالاته وأبعاده، بعد أن كان: (الحجاز)؛ مُنتسبَ الأدباء والمثقفين، والإنتاج الادبي والثقافي التي أنجزوه، بدافعٍ م وضوعيٍّ وبدَهِيٍّ صرف؛ فهُم حجازيون مولدًا ونشأةً وثقافةً ومُنْتَمًى، حازوا أوَّليَّةَ ارتياد مشاهد العِلْم والثقافة والأدب والسَّبقَ إليها، بفضل عراقةِ الإقليم، وتعاطيه المبكِّرِ مع المعرفةِ والمدنيَّةِ والحضارةِ، وأسبقيته أقاليم البلاد السعودية في ذلك، (لما تهيأ له من ظرفِ الحج، ولعواملِ الثورة العربية، واتصاله بالثقافة والأدب في البلاد العربية الأخرى)،كما ذهب إلى ذلك الأديب الرائد الأستاذ عبدالله عبدالجبار(ت1432هـ =2011م).
وبفضلِ وجودِ الحرمينِ الشريفينِ فيه، وما شهداه طوال تاريخهما من نشاطٍ علميٍّ؛ غذَّته الهجراتُ المستمرة إليهما منذ ما قبل القرنِ (الحادي عشر) الهجري، إلى منتصف القرن (الرابع عشر) تقريبًا، وكذا التوطُّنُ في المدينتينِ المقدَّستين، وجاذبيتهِما المجاورةَ والإقامةَ الدائمة، ممَّا أثرى الحجازَ ثقافيًا، وأكسبه خاصيِّةِ التنوع الفكري والاجتماعي، وجعل حاضرتَيْهِ المقدَّسَتينِ محْفَلَينِ للمعرفة والتنوير. ثم صار الاسم الجامع الحديث: المملكة العربية السعودية، الذي أُطلِقَ بعد مرور (ستة) أعوامٍ تقريبًا، على بدء حركةَ الأدبِ الوطني الحديث، ورَافَقَ بدايات النهضة الأدبية، التي كان من مظاهرها التالية فيما بعد بــــ(أربعةِ) أعوامٍ؛ إنشاء مجلة المنهل، التي انتابها ما ينتابُ مثل هذه المشاريع الثقافية التأسيسيَّةِ؛ من حتمية تواضع البدايات، إزاء حجم الطموحات، وأبعاد التطلعات والآمال، وكان الأنصاريُّ يقدِّر ذلك كُلَّه، ويحسِبُ له حِسَابه، وقد مرَّ بنا حديثه حول العدد الأوَّلِ، وعدم رضاه عنه.
ومن ثمَّ، زامنتِ المجلةُ مرحلةَ نشأة الأدبِ الوطني الحديث، الذي كان المؤسِّسُ يتطلَّع إليه، بحسب فهمِهِ له، وإدراكه جلِيَّتَهُ.
واستمرت تتوالى أعدادها، وتتطوَّر طروحاتُها، ويتكاثر كتَّابُها، وقراؤها، واستقامت في مسارها، حفيَّةً بالأدب والثقافة والتراث، ومعنيَّةً بجوانب ثقافية، غير أدبية، تتعلقُ بأنشطة الدولة، وحركة التنمية فيها، وقيام المؤسسات الوطنية باختصاصاتها المتنوعة، وما إليها من شؤونٍ حفلتْ المجلةُ بها وآزرتها، وكانت لسان حالها، ومنشورها الثقافي لا الدعائي، الذي وضَّحَ لجمهور قرائها من المواطنين؛ ضرورتها وأهميتها، والغايات والمقاصد المتوخاة منها.
فيما ركَّزَ رئيسُ التحريرِ المؤسِّسُ؛ اهتمامَهُ بالجانب الأدبي والثقافي في المنهل، بوصفه مقوِّمًا رئيسًا من مقوِّماتِ وجودها، وحيثيةٍ من حيثيات تأسيسها، وهو قضيته التي نهضَ بها بواسطة المجلة، التي تقاطعَ جوهرُها الصحفي، مع همّهِ الذاتي، وتكوينه المعرفي، وتقاطعتْ فيها وتلاقتْ؛ غايةُ الفرد: الأنصاري؛ المثقف والأديب، رئيس التحرير، مع غاياتِ الآخرين: المجموعة؛ أدباء وعلماء ومثقفين، وقُرَّاء مُتلقِّين؛ في مشهد الأدب، وساحة الثقافة، من طريق المنهل بأبوابها وأطروحاتها المتنوِّعة.
ولم يكن مع اتجاهه المحافظ، يُقصي مُخالفيه، أو يحجرَ عليهم مساحةً مستحقَّةً، في مجلةٍ ثقافية وطنية المنبع والرسالة، عربية الفضاء والامتداد، بل كان يُفسحُ المجالَ لمن يتفق معهم، ولمن لا يتفق مع بعضهم إلى حدٍّ ما؛ شرط عدم تجاوز أخلاقيات المعرفة وشروطها. وكان حفيًّا بالجدلِ العلمي، حول القضايا الأدبية والثقافيةِ، ومشجعًا له، وحريصًا على استمراره، ومتخذًا مكانه كمثقفٍ في سياق قضايا ذلك الجدل، ومشاركًا فيها، وفي هذا السياق يقول الناقد الدكتور صالح زيَّاد: «وجاء إصداره للمنهل وقيادته تحريرها؛ في اتجاه هذا المعنى السِّجالي، الحفيِّ بالجدلِ والحوار، والمعبأ بروحِ المواجهة،ِ من حيث هي عملٌ صحافيٌ ثقافٌي، لا تتَّقدُ نارُهُ دون المناقدة والمراجعة، وتفاعلِ المقولات، وعطف بعضها على بعض»، وتجلَّت جدالاته وحواراته، في عديدٍ من القضايا اللغويةِ، والأدبيةِ، والتاريخية؛ التي حفلت المنهل بها، في كثيرٍ من أعدادها، وكان الأنصاريُّ يأنسُ كثيرًا للقضايا الإشكالية، في صنوف المعرفة الآنفة، لما كان يراه في نفسه من أهليةٍ وكفاءةٍ علميةٍ للمشاركةِ فيها، والتعبير عن موقفه منها، شأنه في ذلك شأن بعض الرُّواد من أدباء جيله، الذي يتفقون، أو يختلفون معه في الرؤية، ويشتركون في إدراك أهمية الحوار، وآفاقه الجدلية، وجدواه الثقافية، التي أثْرَتْ ساحة الثقافة الوطنية آنذاك.