أ.د.صالح معيض الغامدي
هذه المراجعة النقدية كتبتها مقدمة لكتاب «يوميات المترو الأحمر» للدكتورة أمل التميمي، الذي سيصدر قريباً.
« عرفت الدكتور أمل التميمي منذ زمن بعيد عندما كانت طالبة في مرحلة الماجستير، فقد شاركت في لجنة مناقشة رسالتها الرائدة حول السيرة الذاتية النسائية العربية، والتي نشرت كتابا في عام بعنوان «... « والذي يعد أول دراسة عربية لهذا الموضوع في العالم العربي. وأدركت منذ ذلك الوقت مدى طموحها العلمي ونظرتها العلمية الوثابة، فهي لا ترضى بالبحث في الموضوعات الأدبية بطريقة مألوفة وعادية، بل تنشد دائماً ارتياد موضوعات جديدة شائكة وتوظيف أساليب بحثية تحمل قدراً كبيراً من الجدة والاستشراف، وما يستتبع ذلك من تحد ومغامرة واستكشاف. وقد تأكد لي ذلك عندما عيّنت مشرفاً لها في درجة الدكتوراه واختارت الكتابة في موضوع جديد معقد آنذاك وهو السيرة الذاتية المرئية، ورغم الصعوبات الجمَّة التي واجهتها، فقد استطاعت بجديتها وإصرارها وحماسها لكل جديد أن تكتب ربما أول دراسة عربية في هذا المجال، وأن تطبع رسالتها في كتاب عام بعنوان «السرد السيرذاتي في الأدب الوسائطي: السيرة الذاتية التلفزيونية».
واستمرت الدكتورة في كتبها وبحوثها اللاحقة لا ترضى إلا بارتياد موضوعات جديدة في حقل السيرة الذاتية والأدب الذاتي وأن تسعى إلى رصد التحولات التي مر بها هذا الجنس الأدبي في العالم العربي أدبياً واجتماعياً وسياسياً، ولعل ذلك يتضح بجلاء في كتابها «تحولات السيرة الذاتية وممارساتها الجماهيرية بعد ثورات الربيع العربي» الصادر عام 2017 . ويطول بنا المقام إن نحن حاولنا تتبع كل أبحاثها العلمية الريادية في مجال السيرة والأدب الذاتي عموماً.
ولكن الروح الوثابة عند الدكتورة أمل لا تقتصر على الدراسات النقدية للسيرة الذاتية، بل إنها تحضر بقوة في محال كتابة السيرة الذاتية الحياتية ذاتها. فبالإضافة إلى هذه الجهود النقدية النظرية المميزة التي أشرنا إليها، اهتمت التميمي بالكتابة الإبداعية للسيرة الذاتية وكانت مثلما كانت في نقدها، تراهن على التفرّد والإبداع في كتابة السيرة الذاتية بطريقة تبتعد فيها عن العادي والمألوف في كتابتها في العالم العربي، وتجنح إلى المختلف والمغاير الذي قد يتجاوز بعض المعايير التي ترعاها الأعراف والتقاليد النقدية والإبداعية في كتابة السيرة الذاتية.
فقد كتبت سيرتها الذاتية لمرحلة الطفولة «في مشلح أبي وحدي» ونشرتها عام 2022م. وقد اختطت في كتابتها منهجاً مختلفاً عن المناهج المألوفة في كتابة السيرة الذاتية عن طريق توظيف البناء المتعدد المستويات والتشظي والاسترجاع التخييلي وغيرها من التقنينات التي أشرت إليها مقال سابق.
ولكن هذه الروح الوثابة الإبداعية تجلت أكثر ما تجلت حقيقة في هذه السيرة التي أكتب هذه المقدمة لها «يوميات المترو الأحمر»، إذ بلغ التوثب الإبداعي السيرذاتي عند التميمي درجة غير مسبوقة فيما أعلم عندما كتبت يومياتها في مدينة الرياض بالمشاركة مع الذكاء الاصطناعي، ممثلاً في شخصية فرانك البريطاني التي اختلقتها التميمي بمساعدة برنامج شات جي بي تي. وهذه فيما أظن طريقة غير مسبوقة في كتابة سرد ذاتي تشاركي مع الآلة، على الأقل في سياق الإبداع السيرذاتي العربي.
إن كتاب «يوميات المترو الأحمر» لهو مغامرة تجريبية غير مألوفة ومختلفة، بل مجنحة الخيال في مجال السرد السيرذاتي، تستحق منا التأمل والتذوّق والتحليل والنقد، فهي تجربة سيرذاتية حديثة تجمع بين الذات الإنسانية والذات الافتراضية لتشكيل نص سردي سيرذاتي حداثي أو ربما ما بعد حداثي، من شأنه أن يصدم الكثير منا أول وهلة، ولكننا ما نلبث بعد قراءته أن ندرك أن كتابة اليوميات بهده لطريقة ربما يأتي في سياق التطور التقني والحضاري الذي تمر به المملكة العربية السعودية في شتى المجالات ومنها المجال الأدبي، ففي عهد الملك سلمان وولي عهده الشاب المبدع والسياسي المحنك الأمير محمد بن سلمان، فإن الإبداع لا حدود له. فلا عجب أن يكون الأمير محمد بن سلمان الذي يحضر افتراضياً بكثافة في هذه اليوميات، هو قادح شرارة الإبداع الأولى لهذا النص السردي السيرذاتي. الفريد «يوميات المترو الأحمر»!
إن توظيف التميمي لشخصية فراك الافتراضية قد مكَّنها من الحديث عن موضوعات متنوعة في يومياتها وسهَّل عليها تفادي كثير من الصعوبات التي يواجهها عادة من يكتب يومياته أو سيرته الذاتية بطريقة مباشرة، ومكَّنها كذلك من طرح مواقفها ورؤاها حول ذاتها أولاً، وحول قضايا مجتمعها وصلاتها به، والأهم من ذلك مواقفها من التطور المذهل الذي تمر به المملكة العربية السعودية في ظل رؤية 2030 ومهندسها المبدع محمد بن سلمان، وما توظيف «المترو» في هذه اليوميات إلا رمز للتطور الحضاري المذهل الذي تشهده المملكة العربية السعودية في المرحلة الذهبية من تاريخها.
وأخيراً فإن «يوميات المترو الأحمر» هو عمل تجريبي بامتياز يشترك في تأليفه مؤلفان أحدهما مؤلف بشري هي أمل التميمي، والآخر مؤلف اصطناعي أو افتراضي هو فرانك، الشخصية الافتراضية التي اختلقتها الكاتبة أمل التميمي لتكتب هذه اليوميات المثيرة منطلقة من حكمة لها ذكرتها في يومياتها وهي تخاطب صديقها الافتراضي فرانك، وتبنتها بقوة، مفادها أن «من لم يجرب، لن يكتب، ومن لم يكتب، لن يُخلد».