سارة المطيري
ما الأدب؟ سؤال قديم متجدد ظل يؤرق النقاد والفلاسفة منذ العصور الأولى للتفكير في الفن، وقد وجد هذا السؤال صدى واسعاً في كتاب الدكتور شكري عزيز الماضي في نظرية الأدب، وهو كتاب لا يقف عند حدود التلخيص الأكاديمي لنظريات الأدب، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة القارئ وإشراكه في رحلة البحث عن ماهية الأدب ووظيفته، وما إذا كان بالإمكان القبض على تعريف محدد له. الكتاب في أصله مجموعة محاضرات ألقاها المؤلف على طلبة جامعة قسطنطينة، غير أنّه أراد إخراجها في صيغة مكتوبة بعد أن لمس حاجة الثقافة العربية إلى مراجع حديثة في مادة نظرية الأدب، وهي الحاجة التي عبّر عنها بوضوح حين أشار إلى قلة المراجع وتشتتها، وهو ما يكشف منذ البداية عن وعي المؤلف بضرورة سدّ هذا النقص وإسهامه في إغناء المكتبة النقدية العربية.
أول ما يواجه القارئ في هذا الكتاب هو الإشكال الجوهري: ما هو الأدب؟ يبين الماضي أنّ الإجابة عن هذا السؤال ليست واحدة ولا نهائية، إذ إن الأدب ظاهرة معقدة تتشابك فيها عناصر متعددة؛ فهو عند بعض النقاد مرآة للواقع، أو صورة لعقل الأديب ونفسيته، أو انعكاس للبيئة والمجتمع الذي ينتمي إليه، بينما يرى آخرون أنّه قبل كل شيء لغة، وأنه بناء لغوي خالص قائم على الخيال والتشكيل، وهو ما نجده في الطروحات البنيوية وما بعدها عند نقاد مثل رولان بارت الذي شدّد على استقلالية النص عن المؤلف وعن مقاصده، معتبراً أن المعنى لا يُستمد من الخارج وإنما يتشكل من داخل النص ذاته. في المقابل هناك من يعرّف الأدب باعتباره تجربة إنسانية مصوغة بلغة خاصة، أو تعبيراً بالكلمة عن موقف الكاتب من العالم، أو فعلاً يهدف إلى تحقيق تأثير محدد في المتلقي، وهذه التعريفات المتباينة لا يلغي بعضها بعضاً، بل تكشف عن طبيعة الأدب المتعددة والرافضة لأي قيد نهائي.
من هذا التعدد تنبثق مسألة أخرى بالغة الأهمية، وهي كيفية إنتاج المعنى في النص الأدبي، إذ يرى المؤلف أن المعنى قد يتشكل داخل الكاتب باعتباره حاجة نفسية ضاغطة لا تهدأ إلا بالتعبير، فيكون النص استجابة داخلية لنداء باطني، وقد يتشكل من خلال الاحتكاك بالعالم الخارجي حين يواجه الكاتب أحداثاً أو صدمات أو وقائع تدفعه إلى تحويلها إلى نص مكتوب، بينما تذهب الاتجاهات الشكلية والبنيوية إلى أنّ المعنى لا يوجد في الداخل ولا في الخارج، وإنما في البنية النصية ذاتها التي تتولد فيها الدلالات من خلال شبكة العلاقات بين العلامات والرموز، الأمر الذي يجعل القارئ طرفاً أساسياً في عملية إنتاج المعنى، إذ لا يعود دوره مقصوراً على التلقي السلبي بل يتحول إلى منتج ثانٍ للنص وفق أفقه المعرفي وتجربته الخاصة.
ويمتد النقاش في الكتاب ليشمل علاقة الأدب بالواقع، وهي علاقة عالجها الماضي من خلال نظرية المحاكاة التي مثّلت نقطة الانطلاق في النقد الغربي منذ أفلاطون. فقد اعتبر أفلاطون أن الفن لا يقدم سوى صور ناقصة للحقيقة، إذ إنّ الشاعر يقلد العالم المحسوس الذي هو في ذاته ظل لعالم المثل، وبهذا يكون العمل الفني صورة للصورة، أي بعيداً عن الحقيقة بمسافتين، مما جعله يحذر من الشعر ويرى فيه خطراً على الوعي. وعلى النقيض من ذلك كان موقف أرسطو الذي نظر إلى الفن بوصفه مكملاً لنقص الطبيعة، فهو لا يحاكي ما هو كائن فحسب، بل ما يمكن أن يكون، أي أنّه يتجاوز الواقع الناقص إلى صورة مثالية أو مكتملة، وهو ما جعل الشعر عنده فعلاً إبداعياً يتجاوز المحاكاة السطحية ليصل إلى تخييل يعمّق فهم الإنسان لذاته وللعالم. هذه الجدلية بين أفلاطون وأرسطو أسست لمواقف لاحقة امتدت في تاريخ النقد، فبينما ظل اتجاه المحاكاة حاضراً في المدارس الواقعية والنقد الاجتماعي، برز اتجاه آخر يرى الأدب بوصفه أفقاً لتجاوز الواقع وإعادة تشكيله على نحو أكثر انسجاماً مع تطلعات الإنسان.
وإلى جانب نظرية المحاكاة يناقش المؤلف نظرية التطهير التي أرسى معالمها أرسطو أيضاً في تحليله للتراجيديا، حيث اعتبر أن الأثر الفني لا يقتصر على محاكاة الأفعال الإنسانية بل يتعداها إلى إحداث انفعال في نفس المتلقي يقوم على إثارة مشاعر الخوف والشفقة، ثم تحريره منها عبر عملية التطهير، وهو ما يجعل التجربة الجمالية ذات بعد نفسي عميق، إذ يغادر المتلقي النص أو العرض المسرحي وهو أكثر صفاءً وأخفّ وطأة مما كان عليه قبل المشاهدة. هذه الفكرة تتجلى بوضوح في التراجيديات الكبرى مثل «أوديب ملكاً» لسوفوكليس، أو في مسرح شكسبير حيث يتصارع البعد الإنساني مع القيم الأخلاقية فتتولد لدى المتلقي مشاعر متناقضة تبلغ ذروتها قبل أن تنقشع عبر عملية التنفيس أو التطهير.
وإذا كانت نظريات المحاكاة والتطهير تركز على علاقة الأدب بالخارج، أي بالواقع أو بالمتلقي، فإن نظرية التعبير تعيد الاهتمام إلى الداخل، حيث يُنظر إلى الأدب على أنه انعكاس صادق لمشاعر المبدع وأفكاره و تجربته الفردية، ويبلغ هذا الموقف ذروته مع الرومانسيين الذين ربطوا قيمة النص بصدق التجربة وعمقها، حتى قيل إن النص الذي يُكتب بالدم يُقرأ بالدموع، أي أنّ الصدق العاطفي والمعاناة الحقيقية هما ما يمنح النص قدرته على النفاذ إلى القلوب من دون حواجز. هذا التصور يجعل الأدب وثيق الصلة بالذات الفردية لكنه لا ينفصل عن الآخرين، لأنه ما إن يُكتب بصدق حتى يتحول إلى تجربة جمعية يتفاعل معها القراء كلٌ وفق وجدانه وظروفه.
ومع هذا التنوع في النظريات، يصل الماضي إلى قناعة أساسية مفادها أن الأدب ليس ترفاً لغوياً ولا مجرد لعبة جمالية مع الكلمات، بل هو فعل ثقافي يتضمن رسائل وقيما ورؤى تسهم في تشكيل وعي المجتمع. فالنص الأدبي قد ينقل الواقع كما هو، وقد يعيد تشكيله أو محاكمته، وفي الحالتين هو يفتح أفقاً للتفاعل الاجتماعي والفكري، ومن هنا تتكامل الوظيفة الجمالية مع الوظيفة الاجتماعية، فكلما ازداد النص جمالاً في صياغته، ازداد أثره في الوعي الجمعي، وكلما كان صادقاً في التعبير عن قضايا الناس، اكتسب بعداً جمالياً مضاعفاً، لأن الصدق نفسه عنصر جمالي مؤثر.
بهذا المعنى يغدو الأدب مجالاً لا ينفصل فيه الجمالي عن القيمي، ولا ينفصل الفردي عن الجماعي، فهو في جوهره نشاط إنساني يسعى إلى الفهم والتفسير وإعادة البناء، سواء كان ذلك عبر اللغة الخالصة أو عبر الانخراط في قضايا المجتمع. إنّ تعدد الرؤى التي عرضها الماضي يفضي في النهاية إلى رفض أي محاولة لحصر الأدب في تعريف واحد أو وظيفة واحدة، فالأدب مرآة متعددة الوجوه؛ تعكس الذات حيناً، والمجتمع حيناً آخر، وتكشف في كل مرة عن بعد جديد من أبعاد الحقيقة التي لا تنفد.
وبعد استعراض الكتاب يمكن القول إنّ قيمته لا تكمن فقط في جمعه للنظريات وتبويبه لها، بل في قدرته على تحريك الأسئلة لدى القارئ، إذ يضعه أمام تاريخ طويل من الجدل النقدي ثم يترك له حرية الموقف. فكل قراءة للنص الأدبي هي في ذاتها كتابة أخرى، لأن القارئ لا يتلقى النص كما هو بل يعيد إنتاجه وفق تجربته الخاصة، وهذا ما يجعل نظرية الأدب مجالاً مفتوحاً لا ينتهي عند حدود المؤلف أو الناقد، بل يستمر مع كل قارئ جديد يضيف إلى النص معنى جديداً.
إن كتابا في نظرية الأدب يكشف عن طبيعة الأدب بوصفه ظاهرة لا تقبل التعريف النهائي، ويدعو إلى النظر إليه باعتباره ممارسة إنسانية شاملة تجمع بين الجمال والفكر، بين الفرد والمجتمع، بين اللغة والواقع. وهو بهذا يضع القارئ أمام حقيقة أنّ الأدب ليس موضوعاً للدراسة فحسب، بل وسيلة لفهم الذات والعالم، وفضاء للحوار المستمر بين النص والكاتب والقارئ والمجتمع، وبذلك يكون هذا الكتاب، على بساطته في العرض، مدخلاً حيوياً إلى التفكير النقدي في ماهية الأدب ووظيفته، ومرجعاً عربياً يسهم في تجديد الدرس الأدبي وفتح آفاقه أمام القارئ والباحث على السواء.