عبدالله العولقي
وُلد غازي القصيبي عام 1940م لأسرةٍ ثرية، فوالدُه رجل الأعمال عبدالرحمن القصيبي أو شيخ اللؤلؤ كما كان يُلقّب في الخليج العربي، والمُتتبّع لسيرته يلمح تفاعل الشخصية مع جغرافيا المكان، فوالدُه نجديٌّ وأمُّه حجازية ويشاءُ القدرُ أنْ تكون نشأته الأولى في الأحساء بالساحل الشرقي التي عاش بها سنواته الخمس الأولى، لينتقل بعدها مع أسرته إلى البحرين التي درس فيها مراحل التعليم الأساسي وقدْ تركت في مسيرته بصمة ثقافية ظلّ وفياً لها حتى رحيله، ورغم ثراء أسرته المالي ومستوى معيشتها الباذخ إلا أنّ طفولة القصيبي اتسمت بالكآبة، فقد نشأ يتيم الأم التي رحلتْ عنه قبل أنْ يُكملً عامه الأول، فتربّى في كنف جدته لأمّه، أمّا والدُه فقد كان صارماً حازماً في تربيته مع أبنائه، عاش القصيبي طفولته في منزله محروماً من اللعب في الشارع، فكان يسمعُ أترابه وأقرانه ودويّ أصواتهم وهم يلهون ويمرحون قرب منزله ولا يتجرّأ بالخروج اليهم مخافة عقاب والده!!، وفي مدرسته كان الطفلُ القصيبي متفوقاً في دراسته إلا إنه ظلّ مكتئباً ومنطوياً على نفسه، كسيراً حزيناً طيلة يومه رغم مظاهر الثراء المادي!!.
بعد أنْ أتمّ دراسته الأساسي حمل الفتى المجتهدُ حقائبه إلى مصر ليدرس القانون هناك، وفي القاهرة عاش الشابُ القصيبيُّ أجواءً متفتحةً من الفكر والثقافة، فتغيّرت شخصيتُه الانطوائية إلى الشخصية الأكثر جُرْأة وانفتاحاً، فذهب إلى صالون عباس العقاد لمناقشته بكل شجاعةٍ حول قضايا الشعر الحر، ولمْ يكنْ يسمع عنْ أُمسية شعريّة أو منتدى ثقافي إلا وكان منْ أوائل الحاضرين فيه، وهكذا توّلّد في نفس الفتى شغفاً عميقاً تجاه الثقافة والأدب والشعر، فكان يبعثُ قصائده الأولى إلى مجلة المصوّر المصريّة تحت اسم مستعار (محمد العليني)، وإذا لمْ تُنشرْ قصيدته كان يلجأ إلى حيلةٍ ظريفة، فكان يُخاطبُ مشرفَ الصفحة الشاعر صالح جودت بثقة الشاعر المشهور وبصيغة الجمع: هذا من شعرنا الذي لمْ يُنشر نخصُّكم به لصفحتكم، لكنّه بعد أنْ بدأ يُلْفت أنظار القائمين على المجلة بموهبته الفذة صارحهم بالحقيقة، وأصبحَ ينشر أشعاره باسمه الحقيقي: غازي القصيبي!!.
سافر القصيبي إلى الولايات المتحدة ونجح في الحصول على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية، ثم أكمل مرحلة الدكتوراة في لندن حول التاريخ السياسي لليمن، ثمّ عاد إلى الرياض ليعمل أستاذاً في جامعة الملك سعود، ثم وزيراً للصحة فسفيراً للمملكة في البحرين ثم سفيرها في بريطانيا، ثم عاد للرياض ليكون وزيراً للمياه والكهرباء ثم وزيراً للعمل، وقد ظلّ في هذا المنصب حتى وفاته عام 2010م.
لقد عاش القصيبي حياته غارقاً في العمل ومنهمكاً في مهام الوظيفة، ضارباً أروع الأمثلة في فنّ الإدارة الحكومية، فكان ينسى بيته وأسرته أحياناً حتى تُذكّرهُ ابنته يارا بغيابِه عنها، فكانتْ تلومُه وهي الطفلة الأثيرة عند أبيها، فكان يُلاطفها بالشعر، ويُنشد أمامها دائماً:
أبوك في المكتب لمّا يزل يهفو إلى الطّيّبِ والأطْيبِ
يصْنعُ حُلُماً: خير أحلامهِ
أنْ يُسْعد الأطفال في الملْعبِ
مِنْ أجل يارا ورفيقاتها
أُولعُ بالشغْلِ، فلا تغضبي
لقدْ كان القصيبي –رحمه الله- يُصنّفُ ابداعياً من الأدباء الموظفين الذين لمْ تشغلهم وظيفتهم قط عنْ ابداعاتهم الثقافية المتعددة، تماماً مثل الروائي الشهير نجيب محفوظ، فقدْ قضى أديب نوبل ما يقارب 37 عاماً في الوظيفة الحكوميّة التي كانت تلتهمُ نصفَ يومه تقريباً، وعلى الرغم من ذلك فكان يقول إنها كانت المعينُ له في كتاباته وابداعاته الثريّة ، وهكذا كان القصيبي كذلك والذي كان يُردّدُ دائماً مقولته الشهيرة أنّ الموظف الأديب أكثرُ انتاجاً وابداعاً من الأديب المتفرّغ!.
لقد ترك القصيبيُّ إرثاً ثقافياً يصل إلى سبعين كتاباً لا يزالُ بعضُها يتصدّر قائمة الأكثر مبيعاً في المكتبات العربية، ولعلّ كتابه الشهير (حياة في الإدارة) الذي أودع فيه خلاصة خبرته الإدارية وتجربته الحياتيّة هو الأبرز بين هذه الكتب، فعلى الرغم أنّ الكتاب يُعتبرُ من أدب السيرة الذاتية إلا أنه يُصنّفُ أحياناً في علم الإدارة نظراً لما يتضمنه من فنون ونظريات في شؤون القيادة وما يتعلق بها، فمعظم الكتب التي تتعلق بالإدارة في مكتباتنا العربية هي نظريات غربية محضة من الصعب تطبيق بعضها في بيئتنا العربية، وفي هذا الكتاب الثري يطرح القصيبي تجربته الإدارية الثرية التي تسدُّ العديد من الثغرات الغير موجودة في كتب الإدارة الغربية، حيث توصّلَ إلى بعض النتائج القيادية التي تتوافق مع طبيعة ثقافتنا وبيئتنا العربيّة، ومن هنا تكمنُ أهميّة هذا الكتاب التي رأى البعض ضرورة تدريسه بأقسام العلوم الإداريّة في الجامعات العربية.
لقدْ كان القصيبي على درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة الإدارية والوطنية الصادقة ممّا أكسبه ثقة القيادة في كل المناصب التي أُو كلت إليه حتى وفاته، فكان الوطنُ حياً في مشاعره وسلوكه وأدبه، فعندما دقتْ طبولُ حرب الخليج الثانية، وبدأت المخاطرُ تحيطُ بوطنه، شمّرَ القصيبي عن ساعده وكتب روائع المقالات السياسية التي دافعتْ بضراوة عن موقف المملكة، وكان السياسيّون العرب والمثقفون والعامة يتهافتون لقراءة عموده الشهير (في عين العاصفة)، كما كتب حينها واحدةً من أجمل القصائد الوطنية الصادقة:
أجلْ نحنُ الحجاز ونحنُ نجدُ
هنا مجدٌ لنا وهناكَ مجْدُ
ونحنُ جزيرة العُرْبِ افتداها
ويفديها غطارفةٌ وأُسْدُ
وهنا نقول إنّ الحديث عن غازي القصيبي لا يمكن اختزاله في هذا المقال لأنّ شخصيته تعدُّ تجربة عميقة وثرية متعددة المواهب، ولكننا سنتحدث الآن عن زاوية من إبداعه الشعري، عن قصيدةٍ لطيفةٍ تتحدث عن قدوم سبطه (فهد) من ابنته يارا، فيها من العاطفة الصادقة والمشاعر المتدفقة والفلسفة الانسانية العميقة، فهكذا كان القصيبي دائماً، إنساناً أولاً وأخيراً، فكانت دمعتُه أقربُ ما تكون إلى نفسه، لقد روى العديد من المرافقين له أثناء زيارته للمستشفيات أبان وزارته للصحة، أنه كان يخرج من قسم الطوارئ والدموع تتساقط من عينيه تجاه مناظر المرضى وآهاتهم!.
لقدْ آثرتُ هنا باختيار قصيدة (فهد) كونها تجمعُ بين عاطفته وانسانيته وفلسفته معاً، فالحديث هنا عنْ تراتبية ثلاثة أجيال، خَلقتْ أحداثُها في نفس الشاعر شجوناً وحكمةً تجاه شخصيّاتها الثلاث، الأولى نفسُه التي رأى أنّ سنوات العمر قدْ مضت به نحو الكِبَر ولمْ يشعرْ بها، والثانية هي طفلته الصغيرة يارا التي كبرت وتزوجتْ وأصبحت أمّاً فجأة، والثالثة حفيده (فهد) الذي قدم إليه فجأة، ومنحه شعوراً جديداً بأنه الآن صار جَدّاً!!.
أقولُ لفهدٍ حين طالعني فهْدُ
أتجْعلُني جَدّاً؟، فِداءٌ لك الجَدُّ
أتجعلني جَدّاً وكنتُ أنا الفتى
تُجنُّ به ليلى وتعشقه دعْدُ
ففي هذه القصيدة القصيرة نرى القصيبي يرى الحدث من زاويتين، فرحته الجميلة بقدوم حفيده فهد، وفلسفته العميقة نحو طبيعة الحياة وحقيقتها مع الانسان، تجاه شبابه الذي انقضى وأفقده وسامته وجموحه:
أتجعلني جدّاً وأيُّ مليحة
تهيمُ بِجَدٍ؟ لا سعادٌ ولا هندُ
لقد عاش القصيبيُّ حياة الإنجاز والنجاح أستاذاً جامعياً وسفيراً ووزيراً وشاعراً وأديباً، فكان يخشى على حفيده فهد من تبعات النجاح التي تُطاردُ المتميزين في وظائفهم ومواهبهم، كيف وهو القائل عن نفسه:
أما تعبتَ من الأعداءِ ما برحوا
يحاورونك بالكبرتِ والنارِ
لقد كان يرى البراءة الفطرية في بسمة الحفيد، وفي نفس الوقت كان يتذكر قلوب الكارهين للنجاح والحاقدين للتميز:
أتيتَ بأعراسِ البراءةِ نسمةً من
الحُبِّ، في أرضٍ يُظلّلها الحِقْدُ
وعلى قدر فرحته بفهدٍ كانت صدمته بطبيعة الحياة، ومرور أعوامها والمرء منهمكٌ في أشغاله التي لا تنقضي، ولذا كان القصيبيُّ يُردّدُ دائماً في أعياد ميلاده بيت أبي العلاء المعري:
وقدْ طلعَ الهلالُ لهدْمِ عمري
وأفرحُ كلّما طلعَ الهلالُ
فهذه التناقضيّة التي يعيشُها الانسان أيْقظها ميلادُ فهدِ في مشاعر جَدّهِ الشاعرِ المرهف:
فيا مرحباً يافهدُ، بالقادم الذي
أطلّ على الدنيا كما يُشرقُ الوعْدُ
فقد أثاره مشهدُ الطفل في يومه الأول وكأنه دمية فتانة بديعة:
رأيتك في المهد المعطّر دميةً
يكادُ من التحنان يلثمها المهْدُ
فغاصتْ به الذكريات والشجن تجاه الماضي، نحو ابنته يارا الصغيرة وطفولتها وأيامها الأولى، فتذكرها وهي تُناديه أبي:
أبي! ألا تصحبنا؟ إنني
أودُّ أنْ تصحبَنا، يا أبي!!
و انطلقتْ من فمِها آهةٌ
حطّتْ على الجُرْحِ، ولمْ تذهبِ
فأخذ يخاطب ابنها فهد:
أأُمّك هذي؟، تلك يارا صغيرتي
على كتفي تحبو وفي أضْلعي تعدو
أكـادُ أراها بين قلبي وأمّها
يهشُّ لها ثغرٌ، ويحرسُها زنْدُ
لقدْ كان المهتمون بسيرة الدكتور غازي القصيبي يتعجّبون من زحمة جدوله اليومي بالمهام الرسمية، فهو رجل دولة من الطراز الأول، فكيف لهذا المسؤول الكبير أنْ يُنتج كلّ هذه الأعمال الأدبية والفكرية في الشعر والنثر والمقالات، لقد كان القصيبي يجيبُ على هذا السؤال دائماً بكل اختصار أنّ العصا السحرية تكمنُ في حُسْنِ تنظيم الوقت، فبدون هذا التنظيم لا يُحْسنُ حتى الانسان العادي أنْ يُنجز مهامه اليومية، يقول ولدُه سهيل بأنّ أباه كان يعتذرُ عن معظم الحفلات والمناسبات التي يُدعى إليها مفضلاً البقاء في المنزل للقراءة والكتابة!!، لقد ترك القصيبي لزوجته الألمانية السيدة سيجريد القصيبي مهام إدارة البيت والتربية وشؤون المنزل وحتى مُهمّة احتياجاته الشخصية، فكانت نِعْمَ الزوجة له:
أيا رفيقة دربي!، لوْ لديّ سوى
عمري، لقلتُ فدى عينيك أعماري
يقول القصيبيُّ عنها: فإذا انتقلتُ إلى عملٍ جديدٍ وتقلّبتْ الأوضاعُ، كانتْ زوجتي بلا شكوى، وعن دما أصبحتُ وزيراً وطالتْ ساعات العمل وتعدّدتْ الرحلات، لمْ أرها أو أسمعها تتذمّرُ قط!، فقدْ كانت الشريكة الحقيقيّة لهذا النجاح، فهي المرأة المجهولة التي تقفُ بحبٍ وصمتٍ ووفاء، فلولا زوجتي لما استطعتُ أنْ انصرف بكل جوارحي إلى الخدمة العامّة!!.
وقبل وفاة القصيبي بخمس سنوات وعندما بدأت آثار المرض تتسلّلُ إلى جسده المثقل بهموم الابداع، كتب لزوجته سيجريد قصيدة ينعى بها روحه، وما أقسى على المرءِ أنْ يرثي نفسه!!، وهي من بدائع شعره العاطفي، وقدْ أسماها حديقة الغروب:
خمسٌ وستون في أجفانِ إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيُّها السّاري؟
أما مللتَ من الأسفارٍ؟، ما هدأتْ
إلاّ وألقتك في وعثاءِ أسفارِ