أ.د. محمد خير محمود البقاعي
من قصص السحر العجيبة التي تحدث عنها القرآن الكريم (سورة البقرة»2»، الآية 102) قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
وارتبط اسم بابل ببرجها الذي جمع له البابليون من العدة والعتاد والبشر ما جمعوا، وجاء البناؤون والمهندسون من ثقافات متعددة ولغات شتى، وتقول الأساطير إنهم لم يستطيعوا إتمامه لاختلاف ألسنتهم، وصعوبة فهم بعضهم بعضا. لقد أصبح برج بابل رمزا كونيا لتعدد اللغات، وتداخلها، وعجز الترجمة عن أداء المعاني لمن يستمعون. ولبابل في التراث اليهودي رمزية تتعلق بالسبي البابلي ونقل اليهود إلى العراق.
وقد كان ديفيد بيلوس، وهو يكتب كتابه، واعيا بلا شك بكل هذه القصص التي حولت التاريخ إلى أساطير.
إن الـكتاب غريب الوقع، طريف المنزع. نشرت له غير مراجعة منها هذه التي نشرتها مجلة ميتا (Meta)؛
وكتبتها ماريا كريستينا بيدرازيني Maria Cristina Pedrazzini الأستاذة في الجامعة الكاثوليكية في ميلان، إيطاليا =Université Catholique de Milan, It وهي مراجعة أدبية للطبعة الفرنسية، نشرت بتاريخ 25-1-2012م. أنجز هذه الترجمة الفرنسية دانييل لوايزا Daniel Loayza بالتعاون مع المؤلف ديفيد بيلوس؛ وهي ترجمة لكتاب عنوانه بالإنجليزية: هل في أذنك سمكة؟ الترجمة ومعنى كل شيء، نشر بينغون للكتاب، 2011م=
Is That a Fish in Your Ear? Translation and the Meaning of Everything, Penguin Books 2011.
والكتاب ذو طبيعة مزدوجة، فهو في الآن نفسه كتاب، وفيلم. وحمل في كل طبعة من طبعاته سمة الثقافة التي يحل فيها.
تقع النسخة الفرنسية التي تتناولها هذه المراجعة في 394 صفحة، وتشير عبارة: «سمكة بابل» إلى حيوان خيالي ابتدعه دوغلاس آدمز، (أديب وكاتب سيناريو بريطاني) Douglas Adams (1952- 2001م) في كتابه «دليل المسافر إلى المجرة». Guide du voyageur galactique وهو أسطورة من الخيال العلمي الساخر، كتب لها سيناريو وحولها إلى مسلسل.
صدر الأصل الإنجليزي عام 1979م، والترجمة الفرنسية عام 1982م. وترجم إلى إحدى عشرة لغة حية ليس منها العربية.
يقول آدمز: (سمكة بابل صغيرة، صفراء، تبدو مثل عَلَقة، وربما تكون أغرب شيء في الكون، إذا وضعت إحداها في أذنك، فسوف تفهم على الفور ما يُقال في أي لغة).
كان آدمز، وهو يبتكر ظاهرة سمكة بابل الخيالية، التي حولها إلى ظاهرة طبيعية، يعترف ضمنياً باستحالة قدرة البشر على إنتاج شيء «مفيدٍ إن لم يكن لديهم تصور عنه»، وإن لم يكونوا قادرين على التعامل مع المفردات الأولية للغة، بل على فهم الحمولة الثقافية الكامنة في هذه المفردات أيضا.
مؤلف الكتاب: ديفيد بيلوس Davide Bellos وعنوان الكتاب في طبعته الفرنسية: «السمكة وشجرة الموز. تاريخ مدهش للترجمة» الناشر: فلاماريون، 2012م، 394 ص.
Le poisson et le bananier. Une histoire fabuleuse de la traduction. Paris : Flammarion, 394 p.
وبيلوس مترجم محنك، وكاتب سيرة معروف، يطوِّف تطواف الحكيم، والفكاهي في عوالم الكلمات حيث نصادف في كتابه عددا من الأدباء والمفكرين والفنانين، وعلى رأسهم شارلي شابلن Charlie Chaplin (1889- 1977م) والفيلسوف «جون لينغشواو أوستن »John Langshow” Austin (1911- 1960م) وكريستوف كولومبوس Christopher Columbus (1451- 1506م) والقديس جيروم saint Jérôme, (نحو 347- 420م).
ونجد أيضا الشاعر الفرنسي كليمان مورو Clément Marot (1496- 1544م)، وفرانز كافكا Franz Kafka (1883- 1924م)، وجورج بيريك Georges Perec (1936- 1982م)، و»أندريي» ماكين Andreï Makine (1957- ….).
إنه كتاب محبب، وذو منزع عجيب لكل محبي اللغة، ولكل أولئك الذين يحبون أن نروي لهم الحكايات.
لقد جاء في هذه المراجعة: ليس هذا دليلا للترجمة، ولكنه كتاب إرشادات في الأسفار.
وهو لا يعالج مسألة المنهج، ولا التقنيات، ولكنه يتحدث عن قصة أشجار الموز التي قيل إنها نبتت في إنجيل ماتيو، وعن سمكة بابل؛ ذلك المخلوق العجيب، الخارق للعادة؛ سمكة يكفي أن تضعها في أذنك لتفهم على الفور كل لغات العالم. وبعبارة أخرى تؤدي كل ما يمكن أن تؤديه الترجمة، وكل ما تفعله في الميادين التي تنغمس فيها؛ انطلاقا من ميدان الفعل الأدبي إلى الدبلوماسية، مرورا بالسياحة، والخيال العلمي أو الترجمة السمعية البصرية.
ما «الجميلات الخائنات؟»
لن تجد عددا من الترجمات المقبولة لمنطوق واحد؟
وما فائدة المعجمات الأولية؟
كيف نعلم أننا نقرأ ترجمة أو نصا أصليا؟
ولماذا لم يكن لاسم الصفة bleu = أزرق، مرادف في اللغة الروسية؟ وعبر أي وسيط اخترعنا كلمة وسيط؟
هل هناك ما يستعصي على الترجمة؟
كم من كلمة في هذه الجملة؟
لماذا قيل عن محاكمة نورمبيرغ Nuremberg إنها مرحلة حاسمة في تاريخ التأويل؟
كيف نترجم الكلمة الأمريكية رقصة الجاز jazzercise إلى اللغة الآرامية؟
هل هيمنة اللغة الإنجليزية خطر على التنوع اللغوي؟
تلك هي مجموعة أسئلة، من أسئلة أخرى كثيرة، يطرحها القارئ على نفسه، وهو يقرأ هذا الكتاب الذي دبجه بكل براعة ديفيد بيلوس، وهو أستاذ الأدب الفرنسي والمقارن في الولايات المتحدة الأمريكية، (جامعة برنستون(Princeton University)، ويدير برنامج الترجمة والاتصال البين-ثقافي.
وهو مترجم أيضا.
لقد أكد المؤلف أن لهذا الكتاب طبعة إنجليزية في نسختين مختلفتين؛ إحداهما موجهة للقارئ الإنجليزي، وتباع في كندا وأستراليا والهند أيضا.
وصُممت الأخرى للقراء في الولايات المتحدة الأمريكية.
ليس هناك أي فقرة، في أي من هذه النسخ تتطابق تطابقا تاما مع التي تقابلها في النسخ الأخرى [….].
إن النسخة الفرنسية التي نضعها بين أيديكم هي، على الرغم من الحذف والإضافة، وإعادة الصياغة، والاستبدالات التي أدرجها المترجم. أو التي ابتدعها المؤلف، على الرغم من كل ما سبق، لا تقل أصالة (بل ربما تتفوق في هذه الميزة) على النسخة الأصلية.
وهذا في الواقع حكم افتراضي. فقد جاء في (ص 206-207): إذن، نجد في هذا المجلد كتابا أصيلا كل الأصالة كما يظهر ذلك في تمهيده المضمن بين الصفحتين (11- 13).
يقع الكتاب في ثلاثة وثلاثين فصلا، وتقع التعاليق عليه بين الصفحتين (361- 376)، والكشافات بين الصفحتين (377- 390). وتنبيهات وعبارات شكر (391- 392).
ويعد كل ذلك قسما من الكتاب.
أما غلافه الفريد، (انظر صورة عنه أعلاه) حيث نجد العنوان في الجهة اليسرى من الغلاف.
السمكة وشجرة الموز، «محصورا» داخلها كائن هجين، له لون الموز وزعانف السمكة.
وله ذيل سمكة أيضا.
وفي الجانب الأيمن من الغلاف هناك العنوان الفرعي الشارح: تاريخ مدهش للترجمة=
Une histoire fabuleuse de la traduction.
ولا يبوح العنوان بأسراره إلا في الصفحات (187 و287 ) بالتتالي.
فالسمكة الصفراء تستدعي «الإحساس السمعي»[…]
سمكة بابل (ص 287) التي تسمح بفهم كل اللغات، وقد ابتدعها كما ذكرنا الممثل الفكاهي الإنجليزي دوغلاس آدمز Douglas Adams في كتابه: دليل المسافرين إلى المجرَّة (1979م)=
The Hitchhiker’s Guide to the Galaxy (1979)
وصدر بالفرنسية عام 1982م بعنوان: دليل المسافرين الفضائيين=
Guide du voyageur galactique (1982)
أما شجرة الموز فهي تقدم المعادل الثقافي لشجرة التين في الترجمة المضطربة لإنجيل ماتيو، وهذا ما مكن المؤلف من أن يضع للفصل الخامس عشر من كتابه عنوانا هو: موز القديس ماتيو =
Les bananes de Saint Matthieu.
- ترجمة كميَّة، وترجمة كلية (ص 181-195). يمكن أن يبدو التقريب بين الموز وبين القديس ماتيو غير متسق، ولكن القسم الثاني من العنوان يُذكِّر بأن ما يُطرح في هذا الفصل هو طرح جاد.
إلامَ يرمي كتاب يوصف بأنه «تاريخ مدهش للترجمة؟»
وبغض النظر عن التواضع في استخدام الاسم النكرة une historie «تاريخ»- فليس هناك كتاب يمكن له أن يدعي الفرادة.
إن اختيار الصفة «مدهش» يومئ إلى رغبة المؤلف في المواءمة بين سعة الاطلاع-تاريخ الترجمة- والرشاقة والبراعة في الطرفة، وهذا ما يكتشفه القارئ المفترض الذي سبق له أن ضاق ذرعا بعنوان الكتاب، أو بعدد من فصوله مثل الفصل الرابع عشر المعنون: كم كلمة نحتاج لنقول: «قهوة؟» (ص 171- 180). والفصل الرابع والعشرين بعنوان: «سمكة بابل في أذنك». تاريخ مختصر للتأويل المتزامن (ص 277- 290).
أو الفصل 30 المعنون: (إطلاق النار على المترجم! ص 337-340)
يتضح للقارئ منذ أن يبدأ بالقراءة أن المؤلف يشركه في شكل من أشكال الحوار عندما يجيب عن الأسئلة التي يستطيع أي كان أن يطرحها:
1- ما الترجمة؟ (ص 13-15).
2- هل يمكن أن نستغني عن الترجمة؟ (ص19-31).
3- في واقع الأمر، لمَ الترجمة؟ (ص 33-44).
يجد علم الترجمة في جعبته مفاهيم يمتلكها منذ زمن بعيد، مثل اللغة الأم، واللغة الثانية.
– L1 et L2,
مناهج الترجمة، المعادِلات، النقل….، الخ.
ولكننا في سياق أيام مختلفة، وفي إطار إتمام تلك المفاهيم مستعينين بالإحصاءات والمعطيات الحديثة (انظر على سبيل المثال: الفصل التاسع عشر بعنوان: التدفقات العالمية. المركز والهامش في ترجمة المؤلفات (219-232)=
Flux globaux. Centre et périphérie dans la traduction d’ouvrages (p. 219-232).
أما القارئ غير المتخصص فسيكتشف في المقابل عالما لم يكن له البتة في يوم من الأيام أن يتوقع ما انتهى إليه من التعقيد، بل لم يتوقع أبدا وجود مثل هذا التعقيد.
في غمرة ذلك، سينخرط القارئ غير المتخصص في رحلة اكتشاف سيواجه خلالها حجر رشيد»1»
(1) المكتوبة باللغات الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية. فك شامبليون رموزها، وتمكن من قراءة رموز اللغة الهيروغليفية).
ويواجه أيضا قَسَم ستراسبورغ (2) les serments de Strasbourg
(2) (وهو الاسم الذي يطلق على التعهدات التي اتخذت في شأن ولاء أولاد لويس الأول؛ لويس الألماني وأخيه تشارلز الأصلع، وأخيهم الأكبر لوثير lothair (لوثر). وتعد وثيقة هذا العقد من أقدم الوثائق المكتوبة بلغتين متباينتين (التوداسك والرومان) آنذاك. يعد بعض المؤرخين في فرنسا هذه الوثيقة عقد الميلاد الرسمي لفرنسا ولألمانيا أيضا).
وسيواجه القارئ غير المختص أيضا بعض تأثيلات (3) الترجمة نفسها كما لو أنها -تفرعت عن الأساطير القديمة والحديثة- لبابل، وللترجمة الحرفية والتجسد Avatar.
إن الأحكام المسبقة عن اللغات، وفي المقام الأول النصوص التي يُزعم أنها عصية على الترجمة؛ شأنها في ذلك شأن المراهنات اللغوية للعولمة، وللكونية.
ربما يعلو الضحك وجه المرء اليوم وهو يسمع «القصة القديمة عن مئة فرق طفيف بين أسماء الثلج في لغة الإيسكيمو»(ص 179). أو يضحك أيضا من توهم الاسمية في تلك الفروق، ولعله يتساءل أيضا عن نتائج المقاربة السوسورية (العالم اللغوي فردينان دو سوسور) للكلام.
لأنه، «وعلى مدار القرن العشرين، كانت النظرية السوسورية عن العلامات تسوغ الاهتمام الضئيل بالترجمة، وبالمنظورات التي تتيحها لفهم الاستخدام الفعلي الذي نستخدم اللغات بموجبه (ص 236).
(3) علم التأثيل أو الأثالة (étymologie): هو علم يبحث عن العلاقات التي تربط كلمة ما بجذر موغل في القدم، يعد هو الأصل (الأثْلة): بالمعنى القديم، وهي البحث عن المعنى الأصلي والأولي للكلمة، وهي عملية لغوية تعتمد المقارنة بين الصيغ والدلالات لتمييز الأصول والفروع).
ويكتشف المرء بشيء من الإعجاب أن (أنتاناس سمتانا) Antanas Smeton (1874- 1944م)
الذي كان آخر رؤساء ليتوانيا حتى عام 1940م قبل أن تغزوها القوات السوفياتية. ثم النازية عام 1941م. لجأ في خطبة الاستنجاد إلى التحدث باللغة اللاتينية، لكي يطلق (دون أن يجد استجابة) آخر نداء طلب استغاثة من قوات الحلفاء. (ص 27).
وكلما تقدم قارئنا غير المختص في رحلته فإنه سيجد في ذاكرته بقايا من معلومات سيتمكن من إثرائها واستكمالها.
لا شك في أن المرء، إن لم يكن قد أجرى دراسات معمقة في ترجمة الكتاب المقدس، أو علم الترجمة فإنه لن يستطيع الحديث عن الدور الذي أداه القديس جيروم saint Jérôme (نحو 347- 420م) في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية.
وإنْ كان القارئ غير المختص يعلم بوجود العبيد في العصور القديمة فإنه لن يقف البتة طويلا عند أدائهم دور المترجمين لدى العثمانيين، ولا عند واقعة أن كتاب ماركو بولو Marco Polo (1254-1324م) هو في (الأعم الأغلب ترجمة ملفقة) (ص 213) من كتب روتشيللو دو بيز Rustichello de Pise (….- 1322م) «كاتب توسكاني ناطق باللغة الفرنسية».
وجد نفسه في الزنزانة نفسها مع ماركو بولو، ويعلم أيضا أن حكاية «أوسان والقصر» Ossian et Le Château لأوترانت دو هوراس فالبول Otrante de Horace Walpole لم تكن إلا ترجمات مزيفة، ينبغي الاعتراف أنها ليست إلا ضربا من الخداع.
لا يشك قارئنا في أننا ندين لمحكمة نورمبيرغ العسكرية الدولية بفكرة ضرورة الترجمة الفورية وصعوباتها في المنظمات التي تتخطى الحدود القومية؛ وفي ضوء ذلك يمكن أن يحدث ما ذكرناه في منظمات المستقبل l’UE ou l’ONU. «الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة».
لقد كان من الضروري أيضا التذكير بأن المشروع كان ذا حجم يفت في عضد كثير من المختصين: فمخاطر السذاجة والتكرار كانت واقعا ملموسا، ومع ذلك قبل ديفيد بيلوس التحدي، وكان النجاح حليفه بفضل خبرته في الترجمة والتعليم. ولنا لقاء.