د. نجوى الكحلوت
وكلُّ كسر فإن الدينَ جابِرُهُ
وليس لكسر قناة الدين جبران
بعد الاستماع لما طرحه الطبيب أسامة الشاذلي في بودكاست (فنجان) حول كتابه «قصة يأجوج ومأجوج كما لم تسمعها من قبل»، وجدت أنه ترك جميع الدلالات على كونهم (قومًا) وأخذ من جذر (أج يأجج) بمعنى (النار)، مع أن الجذر اللغوي يحمل أكثر من معنى يتحكم فيه السياق، والسياق في القرآن الكريم القول الفصل يدل على أنهم قوم، وجاء ذلك باللفظ الصريح في النص القرآني والسنة المطهرة. ولا أعلم سبب الإصرار على ليِّ أعناق النصوص وتأويلها بغير ما تحمله من معنى!
كما أن التأويل المفرط للنصوص يؤدي إلى تحريف المعاني الظاهرة والمقصودة. ولعلي في هذا السياق أقدم تفسيرًا وإجابة عن سؤال يفرض نفسه. لماذا ينجذب البعض لهذه التأويلات رغم علمهم بضعفها؟
أظن أن ذلك يكمن في الرغبة في مواكبة العصر بمحاولة دمج النصوص الدينية مع المفاهيم العلمية الحديثة. إضافة إلى الانبهار بالرمزية والتأويل الفلسفي الذي يعطي الشخص شعورًا بعمق الفهم. وقد يعتري البعض نفورًا من الغيبيات حيث يجدون صعوبة في تقبل الأمور الغيبية بالعقول المجردة. أضف إلى ذلك الشعور بالتميز عند تبني آراء شاذة تمنح صفة التفرد والاختلاف. ولعل للتأثر بثقافة الغرب دون وعي أثراً كبيراً في ذلك.
ونظرًا لوجود شُبهات جلية أُثيرت في تلك الحلقة وجب الرد عليها، من باب الأمانة العلمية الدينية واللغوية، ولإظهار الحق دون المساس بشخص الدكتور المجتهد. فالغاية إجلاء الحقائق كما وردت في الكتاب والسنة باستعمال الأدوات اللغوية التي كانت مدخل حديث الشاذلي.
ذكر الطبيب الشاذلي في تفسيره غير التقليدي لقصة يأجوج ومأجوج، مستندًا إلى ما وصفه بحقائق علمية وقراءة جديدة للنصوص، معتبرًا أنهم ليسوا بشرًا، بل ظواهر طبيعية أو كائنات غير آدمية. وعليه سنرد المسألة إلى ظاهر النص القرآني وسياق اللغة العربية، دون غفلة عن البُعد الإيماني والغاية الأخروية التي أشار إليها المفسرون والمفكرون من منطلقاتها اللغوية والدينية.
أولًا: النص القرآني صرّح بأنهم «قوم» وكذلك النص النبوي الشريف.
في سورة الكهف، جاء النص صريحًا قاطعًا: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا» (86).
«حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا» (90).
«حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» (93).
• كلمة «قوم» في العربية لا تطلق إلا على جماعة بشرية.
• ولم ترد في القرآن أبدًا لوصف ظواهر طبيعية أو كائنات غير عاقلة.
• ورد في الأثر والحديث الصحيح بأنهم قوم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يأجوج ومأجوج من ولد آدم…» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). فالحديث هنا لم يذكر أنهم رموز، بل أقوام حقيقيون من بني آدم. وهذا نصٌّ صريح أنهم بشر، لا ظواهر طبيعية.
• يأجوج ومأجوج من علامات الساعة الكبرى التي تتلاحق بعضها خلف بعض كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ووصف تتابعها بتتابع العقد إذا انفرط. وتليها الساعة. ونحن لا زلنا نعيش زمن العلامات الصغرى.
• وقد وصف النبي – صلى الله عليه وسلم - خروجهم بأنه خراب عظيم وزحف هائل، حيث يشربون الأنهار ويهلكون من في طريقهم حتى يرسل الله عليهم دودة تقتلهم جميعاً. كما أخبر بذلك: «فيُرسل الله عليهم النغف (دودة) في رقابهم فيُهلكهم…» فهل الزلازل تُقتل بالدود؟!
ثانيًا: الإسناد اللغوي لا يصح نسبته إلى الظواهر الكونية
في نفس آية الكهف (86): «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُّفْسِدُونَ»
• «مفسدون» اسم فاعل، يدل على فعل إرادي يصدر عن بشر.
• الزلازل والبراكين لا تُوصَف بالإفساد بهذا الأسلوب المباشر، إلا مجازًا بعيدًا لا ينسجم مع صياغة الآيات.
ثالثًا: واو الجماعة في «ينسلون» تؤكد العقل والاختيار
قال تعالى: «حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ» الأنبياء: 96.
• «ينسلون»: فعل مضارع مرفوع، والواو فاعل لجمع يدل على جماعة بشرية .
• والفعل «نسل» يعني: الخروج بسرعة وخفة من أماكن مرتفعة.
• هذه الصورة لا تنطبق على انفجار البراكين أو زحف الزلازل، بل تصف جماعة بشرية تخرج من كل جهة.
رابعًا: سياق سورة الكهف لا يحتمل المجاز قال تعالى: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا» (95).
• الردم حاجز مادي يُبنى لمنع العبور، لا يُبنى ضد بركان أو زلزال!
• وقوله: «فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا» (97). يظهروا»: أي يصعدوا، «ينقبوا»: أي يحفروا – وهما فعلا جماعة بشرية تحاول خرق الحاجز.
• البعض حاول ربط يأجوج ومأجوج بأقوام تاريخيين مثل:
القبائل المنغولية أو التتار (جنكيز خان وأحفاده)، نظرًا لوصفهم بأنهم مدمّرون وقادمون من الشرق. أو ربطهم بالشعوب السكيثية أو الشعوب التركية القديمة.
لكن هذه مجرد اجتهادات تاريخية غير مؤكدة، لأن القرآن والسنة لم يحددا موقعهم بدقة. فهذا ليس هدفاً في ذاته.
خامسًا: المعاني الاشتقاقية لا تغيّر هوية الكلمة
• قيل إن «يأجوج» من «الأُجَاج» أي الحرارة والهيجان، كما في النار والماء الأجاج، وهذا اشتقاق صوتي لا يلزم منه أن يكون المسمّى نارًا أو بركانًا.
• في اللغة، الاشتراك اللفظي أو التقارب الصوتي لا يعني التطابق في المعنى، ولا يبرر المجاز ما لم يدل عليه السياق. والسؤال، من أين جاء هذا التأويل؟ نقول إن: بعض المفكرين أو المتأثرين بالمدارس العقلانية الحديثة يحاولون تفسير الغيبيات بطريقة رمزية. فيقولون مثلًا:
يأجوج ومأجوج = قوى الطبيعة المدمرة.
السد = حاجز علمي أو حضاري.
الخروج = لحظة فناء أو كارثة بيئية.
• الهدف عندهم كما ذكرنا في مقدمة المقال هو دمج النصوص الدينية مع المفاهيم العلمية الحديثة. لكن المشكلة في هذا النوع من التأويل أنه يفصل النص عن سياقه الشرعي واللغوي وبذا يضل الطريق السوي والمغزى الحقيقي للمراد.
سادسًا: الغاية ليست التحليل، بل الاستعداد
ونورد في هذا رأي الطبيب والمفكر د. مصطفى محمود (رحمه الله) قال في أكثر من موضع – منها في رحلتي من الشك إلى الإيمان:
«قصة يأجوج ومأجوج ليست لتفسير ظواهر الأرض الكونية، بل لتفسير النهاية… إنها دعوة للاستعداد لا للتأويل، للانتباه لا للتنظير.»
وقال أيضًا في كتاب حوار مع صديقي الملحد:
«القرآن حين يتحدث عن علامات الساعة لا يهدف إلى الإبهار العلمي، بل إلى إثارة الهلع الإيماني، ليعود القلب إلى الله.»
وفي الحديث الشريف إشارة واضحة إلى هذا المغزى
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: متى الساعة؟ قال: «ما أعددت لها؟». متفق عليه.
فالرؤية الإيمانية تنبهنا إلى:
• أن مقصد القرآن من هذه العلامات تذكير الإنسان بالمآل والبعث، لا استهلاكه في رموز جيولوجية أو تفسيرات مادية.
• ومن الخطأ أن نحصر هذه الآيات في نطاق «الظواهر»، ونتغافل عن غايتها الأخروية.
من الطبيعي أن يسأل البعض اليوم: «أين هم؟ كيف يعيشون؟ هل ممكن أن يكونوا في عالم آخر أو بعدٍ آخر؟» هذه أسئلة مشروعة، لكن العلماء المسلمون يقولون: ما أخبر الله به ورسوله من الغيب، نؤمن به كما جاء، دون تكلف معرفة الكيفية ما دام لم يرد بها دليل صحيح وصريح.
خاتمة القول:
• إن «يأجوج ومأجوج» زلازل وبراكين قول مرفوض لغويَّا وسياقيَّا وقرآنيَّا.
• التعبيرات: قوم - مفسدون - ينسلون - لا يستطيعون الظهور ولا النقب، كلها تؤكد هويتهم البشرية.
• الانشغال بتأويل الغيب على غير وجهه يحجب الهدف الأهم. وهو الاستعداد بالعمل الصالح لعمارة الدنيا والآخرة.
المراجع:
1. القرآن الكريم
2. ابن فارس، مقاييس اللغة، مادة «نسل».
3. الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن.
4. الطبري، تفسير جامع البيان.
5. د. مصطفى محمود، رحلتي من الشك إلى الإيمان، دار المعارف.
6. د. مصطفى محمود، حوار مع صديقي الملحد.
7. موقع الدرر السنية، الموسوعة الحديثية.