د. جمال بن حسن الحربي
قاعدة ترويجية للتسويق والترند (كن تافهاً وعبر سناريو غريب وعاطفي تعود للترند من جديد) هذا ما تبناه بعض مشاهير قنوات التواصل الاجتماعي فهذه الظاهرة لم تولد من رحم إنجاز علمي، أو إبداع فني، أو مساهمة فكرية، بل نشأت -في كثير من الأحيان- من فراغ المحتوى وسطوع «الترند» وضجيج المتابعين. وهنا يبرز سؤال إعلامي عميق: من الذي منح التفاهة سلطة النجومية؟
وعند تأصيل هذه الظاهرة علمياً نجد أن هناك دراسات إعلامية واتصالية درست حالة التأثير مفهوم «التأثير» في الإعلام الجديد، وكيف تحوّل معنى الشهرة من كونه مبنياً على الكفاءة والإنجاز إلى أن يُقاس بعدد المشاهدات والإعجابات. هذا التحوّل لم يكن بريئاً؛ إذ استغلته شركات تجارية، وساهمت المنصات الرقمية في تضخيمه عبر خوارزميات تكافئ المحتوى السريع والمثير للجدل ولو كان سطحياً، في حين تُقصي المحتوى الرصين لكونه لا يحقق سرعة الانتشار ذاتها. وهنا تتجلَّى نظرية «وضع الأجندة» في أوضح صورها: فالمنصات لا تقول للناس ماذا يفكرون، لكنها تحدد لهم فيمَ يفكرون.
الخطر الحقيقي لا يكمن في إنتاج التفاهة فحسب، بل في إعادة تدويرها وتقديمها على أنها نموذج مجتمعي مؤثّر. وحين يتحول صاحب مقطع ساخر أو محتوى سطحي إلى «قدوة» للجيل الناشئ، فهذا يعني أن ميزان القيم الإعلامية والاتصالية قد اختل، وأن دائرة الضوء ابتعدت عن الإعلام الجاد القائم على المعرفة والتثقيف. ويعيد هذا إلى الأذهان نظرية «الأطر الإعلامية» التي تشير إلى أن طريقة التناول والزاوية التي يُسلَّط عليها الضوء تؤثِّر في المتلقي أكثر من المعلومة نفسها؛ فحين يُؤطَّر التافه على أنه نجم أو يؤطَّر موضعاً عبر حسابه أياً كان هذا الموضع، فإنه يصبح كذلك في وعي الجمهور.
ولا يمكن فصل هذا المشهد عن ديناميات السوق؛ إذ وجدت الشركات المعلنة في هؤلاء المشاهير قناة سريعة للوصول إلى المستهلك، فدعمت حضورهم وضاعفت من تأثيرهم. وبذلك أصبح رأس المال التجاري شريكاً في تكريس هذه الظاهرة، دون اعتبار لآثارها الثقافية والاجتماعية بعيدة المدى.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الجهود الرسمية في المملكة التي تنبّهت إلى خطورة هذا الانفلات. فقد تحركت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بخطوات ملموسة لتنظيم المشهد، بدءاً من ضبط الإعلانات المضللة التي كان يروّج لها بعض المؤثّرين، مروراً بإطلاق تراخيص «موثوق» التي تُخضع المؤثّر للمساءلة وتعيد رسم حدود مهنته، وصولاً إلى سياسات فسح وتصنيف المحتوى السينمائي. كما أصدرت الهيئة تقارير دورية أظهرت ارتفاع مساهمة الإعلام في الناتج المحلي إلى أكثر من 16 مليار ريال عام 2024، ونمو الوظائف الإعلامية بنسبة 22 %. وهذه الأرقام لا تعكس مؤشرات اقتصادية فحسب، بل تكشف وعياً رسمياً بأن الإعلام لم يعد ساحة للفوضى، بل صناعة تحتاج إلى حوكمة وضبط وإعادة صياغة معايير التأثير.
لكن يبقى السؤال: هل تكفي الأنظمة واللوائح لوقف سطوة التفاهة؟ الواقع يقول إن المسؤولية تتجاوز حدود التشريعات إلى وعي المجتمع ذاته. فالمتابع هو الممول الأول لهذه الظاهرة: بإعجابه يمنحها الانتشار، وبمتابعته يرفعها إلى صدارة المشهد. إن الإعلام –بمؤسساته وأدواته– لا يستطيع أن يحجب شخصية فارغة إذا قرر الناس رفعها، ولا أن يصنع نجماً حقيقياً إذا أعرض الناس عنه.
وعليه، يصبح الجمهور شريكاً أساسياً في صناعة النجومية أو إطفائها. فإذا أدرك المجتمع أن نجومية التفاهة لا تضيف قيمة وتراجع عن دعمها، فإن أضواءها ستخفت مهما بلغت قوة المنصات. أما إذا استمر الانبهار بعدد المتابعين بغض النظر عن نوعية المحتوى، فإن هذه الظاهرة ستتضاعف وتعيد إنتاج نفسها بصورة أكبر وأخطر.
فالتاريخ لا يخلّد أسماء الصاخبين ولا ضجيجهم، وإنما يكتب أسماء من تركوا أثراً وبنوا وعياً وأسهموا في الارتقاء بالإنسان. ومع تصاعد هذه الظاهرة في فضاءاتنا الرقمية، يبقى السؤال معلقاً: من يمنح التفاهة سلطة النجومية.. الإعلام، أم السوق، أم المجتمع؟