د. إبراهيم بن جلال فضلون
تخيل لو أننا عدنا ستة عقود إلى الوراء، إلى بغداد عام 1960، حيث اجتمع رجال من خمس دول في غرفة متواضعة ليضعوا حجر الأساس لتنظيم غيّر خريطة الطاقة العالمية، إنها منظمة «أوبك». لم يكن الاجتماع مجرد ردة فعل على خفض أسعار النفط من قبل الشركات العالمية آنذاك، بل كان بداية مسار جديد أراد به مؤسسوه، وعلى رأسهم السعودي عبدالله الطريقي والفنزويلي خوان بيريز ألفونسو، منتزعين حق الدول المنتجة في مواردها الطبيعية، ليكون ليس فقط مجرد سلعة تُدار من الخارج، بل مصدر تنمية واستقلال اقتصادي.
واليوم وبعد مرور 65 عاماً، وقفت السعودية في قلب القيادة لـ(أوبك وأوبك+)، مرسخة مكانتها كصمام أمان سوق الطاقة العالمي، وفاعلة رئيسية لا يمكن للعالم الاستغناء عنها.
لقد شهد العالم منذ تأسيس أوبك تقلبات كُبرى في سوق النفط، من التأميمات في ستينات القرن إلى أزمات السبعينيات، ومن الطفرات السعرية في الثمانينيات إلى الانهيارات في التسعينيات، وصولاً إلى جائحة كورونا بنهاية 2019 لعام 2020 والحرب الأوكرانية.
وفي كل محطة، كانت السعودية، الدولة الوحيدة التي تمسك بزمام التوازن. لقدرتها الإنتاجية الفائضة، القادرة على تعويض أي نقص مفاجئ أو سحب الفائض من السوق عند الحاجة، وهو ما جعلها بمثابة «البنك المركزي للنفط» كما يصفها خبراء الطاقة، وأكد ذلك الأرقام الأخيرة للدور المحوري. ففي مارس من عام 2025 بلغ إنتاج المملكة نحو 9.07 ملايين برميل يومياً، مرتفعاً في سبتمبر إلى قرابة 9.98 ملايين برميل يومياً، بزيادة تقارب 900 ألف برميل. وهو ما جعل المملكة صاحبة القدرة الأكبر في تحريك موازين السوق العالمية، مع احتفاظها بقدرة فائضة تُقدَّر بحوالي 2.2 مليون برميل يومياً، وهي ميزة لا تضاهيها فيها أي دولة أخرى داخل أوبك+، لتتربع على حماية الأسعار من الانهيار.
ولعل أبرز ما يميز المرحلة الأخيرة من تاريخ أوبك هو تحالفها مع منتجين كبار من خارج المنظمة مثل روسيا وكازاخستان والبرازيل، في إطار ما يعرف بتحالف أوبك+. استجابة لحقيقة اقتصادية صارخة: أوبك وحدها لم تعد قادرة على ضبط السوق في عالم تتوسع فيه الإنتاجيات خارج المنظمة، تحت شعار «النجاة للجميع أو الغرق للجميع»، في وقت تتقاذفه الأزمات الجيوسياسية والتقلبات الاقتصادية، فعندما اجتاح العالم وباء كورونا، انخفض الطلب العالمي بأكثر من 20 مليون برميل يومياً، فكان للسعودية القول الفصل باتجاه اتفاق تاريخي خُفض بموجبه الإنتاج بنحو 10 ملايين برميل يومياً، منقذة الصناعة من الانهيار الكامل.
وحين بدأت الأسواق تتعافى، تبنت الرياض سياسة التدرج الحذر في زيادة الإمدادات، لتجنب الصدمات التي قد تدفع الأسعار إلى انهيار جديد. والنتيجة كانت استقراراً نسبياً حفظ مصالح المنتجين والمستهلكين على حد سواء. ولا زال لليوم في ظل التحديات التي يشهدها الاقتصاد العالمي من تباطؤ النمو وارتفاع أسعار الفائدة الأميركية، وضبابية سياسات الطاقة الأوروبية، القرار للسعودية في أوبك+، ففي اجتماع سبتمبر 2025، تقرر زيادة الإنتاج تدريجياً بمقدار 137 ألف برميل يومياً اعتباراً من أكتوبر، كجزء من تخفيف خفض طوعي سابق بلغ 1.65 مليون برميل يومياً منذ 2023. هذا القرار، وإن بدا رقمياً متواضعاً، إلا أن أثره في الأسواق عميق، عنوانه « إدارة السوق بعقلانية».. ولعل الحفاظ على التوازن بين الإنتاج والأسعار في ظل وفرة المعروض العالمي هي التحدي الأكبر.
فالولايات المتحدة مثلاً رفعت إنتاجها إلى قرابة 13 مليون برميل يومياً، وتصدر نحو 4 ملايين برميل يومياً للأسواق الآسيوية والأوروبية. بينما تقديرات الوكالات الدولية، بما فيها وكالة الطاقة الدولية، تشير إلى أن طفرة النفط الصخري الأميركي بدأت تفقد زخمها، وأن زيادات الإنتاج في المستقبل ستكون أقل مما توقعه كثيرون. هذا يعني أن أوبك+ والسعودية الطرف الوحيد القادر على الاستجابة السريعة للتغيرات الطارئة. لاسيما أمام الحملات الغربية التي تتهم المنظمة بالتلاعب في الأسعار. فالتجارب أثبتت أن انهيار الأسعار يضر بالمستهلك قبل المنتج، لأنه يؤدي إلى تراجع الاستثمار في الطاقة، ومن ثم إلى أزمات حادة وارتفاعات غير متوقعة في المستقبل، ولذلك عبر وزير طاقتها الأمير عبدالعزيز بن سلمان، أن المملكة رسخت نهج البراغماتية والمرونة، وأثبتت بالأدلة أن استقرار سوق النفط مصلحة عالمية قبل أن يكون مصلحة لدولة بعينها، وكأن ما نشهده اليوم هو عصارة خمسة وستين عاماً من الخبرة، تتجلى في قدرة أوبك، بقيادة سعودية، على موازنة المصالح المعقدة، وترويض الأسواق المتقلبة، والتكيف مع سياسات الطاقة العالمية التي تتأرجح بين الطموحات المناخية والحاجة الواقعية للوقود الأحفوري. وبينما يتحدث البعض عن «نهاية النفط»، تكشف الحقائق أن الطلب العالمي ما زال قوياً، وأن النفط سيبقى لعقود مقبلة المحرك الأول للاقتصاد العالمي بمقدمة سعودية، تضمن أيضاً استدامة النمو العالمي.