عايض بن خالد المطيري
في اللحظة التي يتقن فيها الأطفال أول حرف، أو يحلون أول مسألة حسابية، يقف خلفهم معلم ومعلمة الصفوف الأولية؛ أولئك الحراس الصامتون للبدايات، الذين يضعون اللبنات الأولى لشخصية المتعلم ويصوغون ملامح مستقبله. فالصفوف من الأول إلى الرابع ليست مجرد مرحلة تأسيسية عادية، بل هي معمل إنتاج العقول الناشئة التي ستتحول لاحقًا إلى قادة ومهندسين وأطباء ومبتكرين.
ورغم أن الحكومة السعودية -أيدها الله- تنفق على التعليم ميزانيات ضخمة، إذ أنفقت في عام 2023 ما نسبته 5.1% من الناتج المحلي الإجمالي متجاوزة المتوسط العالمي البالغ 4.4%، وخصصت في موازنة 2022 أكثر من 185 مليار ريال للتعليم، أي ما يعادل 19.4% من إجمالي الإنفاق الحكومي، فإن هذا السخاء المالي لم ينعكس بالقدر المطلوب على المراحل المبكرة. وتجارب الدول الرائدة مثل فنلندا وسنغافورة تؤكد أن الاستثمار الأكبر في السنوات الأولى من التعليم يحقق عوائد مضاعفة على جودة المخرجات لاحقًا، وهو ما يجعل مراجعة أولويات الإنفاق أمرًا لا يحتمل التأجيل.
المعلم والمعلمة في الصفوف الأولية لا يقتصر دورهما على تلقين المعلومات، بل يتقمصان أدوار المربي والمرشد النفسي والمحفز الاجتماعي، ويخوضان يوميًا معركة الصبر وضبط بيئة صفية مفعمة بالحركة والانفعال. ورغم دقة هذا الدور، ما زالت هذه المرحلة في كثير من المدارس تُسند لمعلّمين ومعلمات جدد أو غير متخصصين، وتُعامل وكأنها محطة عبور لا تشكل أهمية بالغة، بينما هي في حقيقتها المحور الأهم في العملية التعليمية.
ونقطة الانطلاقة الحقيقية ينبغي أن تبدأ من الجامعات، عبر تخريج معلمين ومعلمات متخصصين في تدريس الصفوف الأولية، على غرار ما هو معمول به في تخصص رياض الأطفال. فالتخصص الأكاديمي الدقيق، حين يقترن بالإعداد المهني المبكر، يثمر بلا شك مخرجات تعليمية ذات جودة عالية وكفاءة متميزة، ويمنح الميدان التربوي معلمين شغوفين بتخصصهم لا مجرد مكلفين به أو ربما مجبرين عليه.
تشير بيانات وزارة التعليم إلى أن 40% من صعوبات التعلم في المراحل المتقدمة تعود إلى ضعف التأسيس المبكر. ولعل ذلك ما دفع الوزارة لفرض معايير لمعلمي الصفوف الأولية، كاشتراط تقييم وظيفي لا يقل عن 90، ومتوسط نواتج تعليمية للطلاب يفوق 80%، إلى جانب الانضباط المهني والالتحاق ببرامج تدريبية. ورغم أهمية هذه الضوابط، فإنها تبقى إجراءات تنظيمية لا ترقى إلى مستوى استراتيجية وطنية شاملة تُعيد تشكيل التعليم وترتقي به.
الحوافز الحالية مثل تقليص النصاب أو منح إجازات إضافية تُخفف العبء لكنها لا تكفي لجذب وتشجيع الكفاءات. المطلوب رؤية أشمل واستراتيجية تبدأ ببدل مالي خاص لمعلمي الصفوف الأولية، أسوة بالقطاعات الأخرى التي تُمنح فيها بدلات ومزايا لطبيعة العمل، مع إقرار وظيفة «مساعد معلم» لدعم معلمي الصفوف الأولية، بما يتيح للمعلم التركيز على الطلاب ذوي الصعوبات دون أن يتأثر بقية طلاب الفصل.
تجارب الدول المتقدمة في هذا الجانب تقدم نموذجًا عمليًا يستحق التأمل؛ ففي فنلندا يتمتع معلم المرحلة الابتدائية بمكانة اجتماعية تضاهي مكانة الطبيب، مع رواتب مجزية وتدريب وتطوير مستمر. وفي سنغافورة تُربط الحوافز بمخرجات الطلاب، ويُتاح للمعلمين مسارات مهنية متنوعة تشمل البحث العلمي أو القيادة المدرسية، مما جعل المهنة هدفًا لطموحات أفضل الخريجين.
وأمام منظومة تضم أكثر من 6 ملايين طالب وطالبة في نحو 35 ألف مدرسة، 79% منها حكومية، لا يكفي ضخ الأموال دون إعادة ترتيب الأولويات. فتركيز الجهود على المراحل العليا دون بناء أساس متين في الصفوف الأولية يشبه محاولة تشييد برج ضخم على أرض رخوة.
لذا فإن الاعتراف بمكانة معلم ومعلمة الصفوف الأولية يعد استثمارًا في مستقبل الوطن. وإذا أردنا أن يتحول الإنفاق الكبير إلى جودة ملموسة، فعلينا أن نمسك القلم من الصفحة الأولى، حيث يقف معلمو الصف الأول بابتسامتهم وصبرهم، حراسًا صامتين، لكنهم حاسمون في صياغة مستقبل أجيال بأكملها.