صالح الشادي
من الشائع أن نسمع أن «الصين صنعت» و»أمريكا ابتكرت» و»اليابان اكتشفت» و»أوروبا طورت»، لكن هذه العبارات لا تشير إلى كيانات جغرافية أو سياسية مجردة، بل إلى جماعات وأفراد عاشوا في ظل أنظمة وقوانين مهيأة، وحظوا برعاية وتمويل ودعم، مما مكنهم من الإبداع والابتكار.
الحضارة والتقدم ليسا نتاجًا لأمة بعينها، بل هما ثمرة بيئات خصبة توفر التشجيع والحماية والموارد، مما يسمح للعقول المبدعة بأن تثمر.
الحقيقة التي تغيب عن الكثيرين هي أن الإنجازات الكبرى -سواء في التكنولوجيا أو الطب أو الهندسة أو الأدب والفنون- هي حصيلة سلسلة مترابطة من الجهود تراكمت عبر التاريخ. فما نراه اليوم من نظريات واكتشافات هو محطة في مسيرة طويلة، ساهم فيها علماء ومفكرون من خلفيات متنوعة، عبر قارات وعصور مختلفة. لم يكن أي إنجاز وليد لحظته، بل جاء بناءً على ما سبقه من محطات وضع أسسها رواد من ثقافات وحضارات متعددة.
وهنا يتجلَّى دور البيئة الحاضنة: فحيثما وجدت القوانين الداعمة للبحث العلمي، والمختبرات المجهزة، والتمويل الكافي، والحماية للملكية الفكرية، نجد الإبداع يزهر.
الفرد الموهوب -حيثما وُجد- يحتاج إلى بيئة تحول أفكاره إلى واقع ملموس. ومن هنا، فإن تقدم الأمم يُقاس بقدرتها على خلق هذه البيئة الخصبة للعقل البشري.
والإسلام، بدوره، قدَّم رؤية عميقة للعلم والمعرفة. فالقرآن الكريم حث على التأمل والتفكر ومدح أهل الإحسان والعلم، ودعا إلى الأخذ بتجارب السابقين وتأملها والاستفادة منها. وقد تجلَّى هذا المنهج في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، حيث استوعب العلماء المسلمون معارف الأمم السابقة -من اليونان والرومان والإغريق- وطوروها وأضافوا إليها إضافات نوعية في الرياضيات (كعلم الجبر للخوارزمي) والطب (كاكتشاف الدورة الدموية لابن النفيس) والفلك والكيمياء وغيرها. ولم يكن العلم حكرًا على أمة، بل كان ميراثًا إنسانياً مشتركًا.
اليوم، أصبحت القوة الحقيقية للدول تُقاس بقوة علمها وإنجازاتها الابتكارية. حتى الجوانب السياحية والثقافية التي تتباهى بها الدول -كإيطاليا أو فرنسا أو إسبانيا وغيرها- ترتبط في الأساس بإرث إبداعي وفني أنتجته عقول عظيمة في ظل بيئات داعمة.
وفي هذا السياق، تُعد رؤية المملكة العربية السعودية 2030 بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد -حفظه الله-، نموذجاً استثنائياً لكيفية تحول البيئة الحاضنة إلى قوة دافعة للتغيير الشامل. فقد نقلت هذه الرؤية الطموحة المجتمع السعودي نقلة تاريخية غير مسبوقة في مجالات الاقتصاد والصناعة والثقافة والترفيه والتحول الرقمي والابتكار، حتى أصبحت تتحدث عنها الأمم والشعوب في كل أنحاء العالم.
لقد حوّلت الرؤية المملكة إلى ورشة عمل متجددة، حيث أصبح الشباب السعودي شريكاً أساسياً في البناء والتنمية، وبرزت إنجازات المملكة في المحافل الدولية عبر اختراعات واكتشافات وتطبيقات ذكية أسهمت في رفاهية المجتمع وتحويل الأحلام إلى حقائق ملموسة.
العالم العربي اليوم يمتلك كل المقومات للعودة إلى دائرة التأثير: عقولاً مبدعة، وطاقات شابة، وإرادة سياسية متجددة، وموارد كبيرة. وما تشهده المملكة العربية السعودية اليوم من تحول كبير -في التمكين والبناء ودعم البحث العلمي والمبادرات التقنية- هو خير دليل على أن الإرادة العربية قادرة على صنع المستقبل. لقد أصبحنا نرى أحلامًا تتحول إلى واقع، ومشاريع طموحة تثبت أن المنطقة قادرة على الانتقال من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الإنتاج والإبداع.
ليست العالمية حكرًا على شرق أو غرب؛ لقد انطلقت من هنا ذات يوم، ويمكن أن تعود من جديد. التحديات كبيرة، والمحاولات لإبقاء المنطقة في حالة من التبعية موجودة، لكن إرادة الشعوب وإصرار قياداتها ستحقق النصر في النهاية. والعالم العربي قادر على صنع عالميته الخاصة، والحفاظ على تاريخه، وحاضره، وطموح مستقبله.