د. سلامة العنزي
لست متابعًا جيدًا للبرامج الطويلة خاصة في جلسة واحدة، لكني اليوم استمعت إلى برنامج المبدع خالد عون (ذا قال) على قناة ثمانية مع المبدع كذلك مهذل الصقور، ورغم جمال كل ما قاله من قصائد إلا أن قصيدته في الصديق شدّتني كثيرًا ووجدت فيها شيئًا قلّما تجده في القصائد التي تحدّثت عن الغرض ذاته بل واستحضارًا لمعانٍ لم يصرّح بها الشاعر تدل على قيمة هذا الصديق.. الذي لم يرض له الشاعر ما ينزل من مكانته.
مما ذكرتني به القصيدة قول الشافعي:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا
فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
لكن الصقور لا يريد ذلك، بل يرى أن احتمال الضرر البسيط من استمرار العلاقة أفضل من الفراق، فهو يقول:
لو ينكسر في يدك كاس الندامة
يمكن يسبب لك جروحٍ طفيفات
أخير لك واعدّها لك سلامة
من شربةٍ ما بعدها إلا النهايات
ثم يمضي ليصف طبيعة الدنيا التي تجمع وتفرّق، وما علينا إلا الرضا بأقدارها التي هي خير لنا، فلولا ما فيها من حزن لما عرفنا معنى السعادة، وكأنه يذكرنا ببيت التهامي:
جبلت على كدر وأنت تريدها
صفوا من الأقدار والأكدار
لكنه يستلهم من هذه الصورة المتضادة وصفًا يبرر له الجفاء الذي يدفعه الحب، والجفاء والحب لا يلتقيان لكن هذا الصديق قامة كبيرة لدى الشاعر ومجافاته هي دلالة على قدره الذي لا ينبغي أن تخفضه العدوات التي قد تجر المرء لارتكاب ما لا يليق به، فيقول:
أجفاك وأقاصيك حب وكرامة
أبغاك مني ما تضيع أنت بالذات
أبغاك تبقى قامة وايش قامة
وأرفض مطيحك لو تطيح السموات
وهذا المعنى النادر يذكّرني بخلاف محمد بن علي بن أبي طالب مع أخيه الحسين رضي الله عنهم، فقد كتب محمد له بعد أن تخالفا: من محمد بن علي بن أبي طالب إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، إذا جاءك خطابي هذا فالبس رداءك ونعليك وترضّني ولا تجعلني أسبقك إلى الفضل الذي أنت أولى مني به والسلام.
فمحمد يعلم بأفضلية الحسين ويذكّره بحديث خيرهما الذي يبدأ بالسلام، وهنا أرى الشاعر يستلهم هذا المعنى النبيل، وكأنه يعترف بعلو مكانة صديقه دون تصريح مباشر.
ومما ذكّرتني به القصيدة ما قاله المتنبي في عتابه لسيف الدولة من ميميته المشهورة:
واحر قلباه ممن قلبه شبِمُ
ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ
وقال فيها:
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألمُ
ومهذل يعكس هذه الصورة حين يجعل غايته ألا يسقط صديقه حتى لو اختلف معه فيقول:
أبغاك تبقى قامة وايش قامة
وأرفض مطيحك لو تطيح السموات
أما البيت الأخير فهو استحثاث للصديق على البقاء شامخًا عالي الرأس مهما ناله من أذى، وفيه صورة تذكّرني بمرثية أبي الحسن الأنباري للوزير ابن بقية حين صلب فقال فيه:
علو ٌ في الحياة وفي المماتِ
لعمرك أنت إحدى المعجزاتِ
مددت يديك نحوهم احتفاءً
كمَدِّهما إليهم بالهِباتِ
فكما ظل ابن بقية شامخًا بعد موته ورأه الأنباري معجزة، فإن مهذل كذلك يريد لصديقه أن يبقى شامخًا لأنه ليس إلا أهلًا للشموخ وبقاء الرأس مرفوعًا:
لو اصلبك وتعيش مرفوع هامة
مثلك حرام يطيح حتى ولو مات
هذه الصور التي تواردت في خاطري وأنا أسمع أبيات مهذل ربما أنه لم يستحضرها ولكنه استحضر بدون شك قيمة الوفاء المجبولة في طبع الإنسان العربي، ورأيت فيها أنموذجًا نادرًا من نماذج الوفاء بين الأصدقاء، فهي قصيدة معاصرة لكنها تمتد بخيوطها إلى تراث عربي عريق وتعيد إحياءه بلغة قريبة من القلب وبصور رمزية غير مباشرة.