ريماس الصينية
في عام 2025، أقيمت الدورة الثانية من جائزة الباندا الذهبية في مدينة تشنغدو الصينية بحفل رسمي مهيب. ومنذ استحداثها، كرست الجائزة نفسها كمنصة عالمية شاملة تركز على صناعة السينما والتلفزيون، تهدف إلى كسر الحواجز الثقافية وجمع إبداعات ومشاعر المبدعين من جميع أنحاء العالم.
وقد تميزت الدورة الثانية من الجائزة بطابع أكثر عالمية وشمولا ومهنية. فقد اعتمدت اللجنة المنظمة على مزيج من الترشيح الذاتي والجمع الموجه للأعمال، مستفيدة من نظام المختصين في اختيار الأعمال وآلية تبادل الترشيحات مع المهرجانات الصديقة. تم استقبال 5343 عملا للمنافسة، منها 3910 أعمال أجنبية بنسبة 73.2 %، أي بزيادة 3.2 % مقارنة بالدورة الأولى، وشاركت في المسابقة أعمال من 126 دولة ومنطقة، بزيادة 22 دولة وبنمو نسبته 21.2 %.
في أواخر مايو، دعي 28 خبيرا وشخصية بارزة في مجال الثقافة والسينما للتقييم وفق قواعد التحكيم، لاختيار الأعمال المرشحة. وتظهر هذه الأرقام أن جائزة الباندا الذهبية ليست مجرد جائزة، بل أصبحت تدريجيا منصة مهمة لتبادل الثقافات السينمائية على مستوى العالم.
وأهمية الجائزة بالنسبة للدول العربية، أن الجائزة تمثل منصة لعرض الأعمال المميزة، وفي الوقت نفسه رمزا للتواصل الثقافي؛ إذ تسمح للسرد العربي بالوصول إلى الصين، وللقصص الصينية بالوصول إلى الجمهور العربي.
وعلى عكس مهرجان كان أو جوائز الأوسكار، لا تركز جائزة الباندا الذهبية على السرد الغربي التقليدي فقط، بل تؤكد على قيم مجتمع مصير البشرية المشترك، وتهدف إلى تشجيع التبادل الثقافي المتنوع والفهم المتبادل بدلا من تقييم النجاح التجاري، وهذا يجعلها منصة مهمة للتعبير عن السرديات من الجنوب العالمي.
من خلال تنظيم الجائزة، ترسل الصين رسالة واضحة: في عصر الحوكمة العالمية والحوار بين الحضارات، السينما والتلفزيون ليست مجرد صناعة ترفيهية، بل لغة تتجاوز الحدود. فالأفلام والمسلسلات والوثائقيات والرسوم المتحركة هي جسور للتواصل الإنساني والعاطفي والفكري.
ومعروف أن للسينما العربية حضورا طويلا وتاريخا عميقا على المستوى الدولي. فقد اعتبرت مصر مهد السينما العربية، وكان لها تأثير واسع في منتصف القرن العشرين على ثقافة المنطقة السينمائية. ومعروفة برؤيتها الواقعية واهتمامها بالقضايا الاجتماعية. وواصل صانعو السينما اللبنانيون استكشاف تحولات المجتمع في سياق متعدد الثقافات، كما حصلت أفلام تونس والمغرب على جوائز دولية.
هذه الأعمال لم تساهم فقط في ترسيخ مكانة السينما العربية، بل سمحت أيضا للجمهور العالمي بفهم تعقيد وإبداع المجتمع العربي.
وفي هذا السياق، يبرز صعود السينما السعودية كظاهرة ملفتة. فقد فتحت السياسات الوطنية وصناعة دور السينما أبوابا غير مسبوقة للمبدعين المحليين.
في 2012، أنتج فيلم «وجدة»، وهو أول فيلم روائي سعودي من إخراج امرأة، ليقدم للجمهور الدولي لمحة عن الدفء والحساسية في المجتمع السعودي. وفي 2023، جاء فيلم «الخلاط»، الذي يستخدم الكوميديا السوداء لتصوير وجهات نظر متنوعة للشباب، محطما الصور النمطية عن المجتمع السعودي. نمو السينما السعودية السريع يعكس الثقة الثقافية ويعد جزءا مهما من تجديد السينما العربية، إلى جانب مصر وتونس والمغرب، ليعرض أصواتا متنوعة للعالم.
توفر جائزة الباندا الذهبية منصة جديدة للتعاون بين الجانبين. فمن الممكن أن يشارك مخرجون عرب بأعمالهم في تشنغدو الصينية، ليتيحوا للجمهور الصيني فهم الحياة والمجتمع في الشرق الأوسط، بينما تعمل فرق صينية على إنتاج وثائقيات في السعودية أو مصر أو المغرب لتسليط الضوء على التحولات الاجتماعية والثقافية في العالم العربي. كما يمكن أن تتجه الأعمال المشتركة نحو أسواق آسيا والعالم العربي، لتحقيق هدف رواية القصص الإنسانية المشتركة. وهذا التعاون لا يقتصر على تبادل الأفلام فقط، بل يمثل تجسيدا حيا للحوار بين الحضارات.
وإذا كان مهرجان كان يركز على الفن، واهتمت الأوسكار بالصناعة، فإن ما يميز جائزة الباندا الذهبية هو الحوار الحضاري. فهي تمنح الفرصة للأطراف المختلفة من ثقافات وأديان متعددة للتواصل من خلال السينما، دون مركزية سرد الأقوى، مع توفير منصة متساوية للجميع.
وبالنسبة للدول العربية، تمثل المشاركة فرصة لعرض ثقافتها المحلية، وفي الوقت نفسه تعزيز الدور المشترك مع الصين في دعم التعددية الثقافية على الصعيد العالمي. وفي ظل اعتبار يوم الحوار بين الحضارات مناسبة دولية للأمم المتحدة، تعد الجائزة تطبيقا ملموسا لهذه الفكرة.
ورغم أن جائزة الباندا الذهبية ما زالت في مراحل نموها، إلا أنها أظهرت إمكانات كبيرة. ومع مشاركة المزيد من صناع السينما العرب، خصوصا من السعودية ومصر وتونس والمغرب، يمكن أن تصبح حلقة وصل مهمة بين الحضارتين الصينية والعربية.
وعندما تفوز الأعمال العربية في تشنغدو الصينية، وعندما تعرض القصص الصينية في القاهرة أو الرياض أو الدار البيضاء، سنكتشف أن السينما ليست مجرد صور على الشاشة، بل جسر لفهم البشر بعضهم البعض.
في ظل التقلبات والانقسامات العالمية، تذكرنا جائزة الباندا الذهبية أن التبادل الحضاري ليس رفاهية، بل ضرورة للمضي قدما معا. وبالنسبة للعالم العربي، فإن مشاركة هذه المنصة لا تقتصر على دعم السينما المحلية للوصول إلى العالم فحسب، بل تساهم أيضا في تعزيز التفاهم الحضاري الصيني-العربي وتنمية التنوع الثقافي العالمي.
** **
- صحفية في CGTN العربية