إيمان حكيم
كان يحتسي قهوته بهدوء، حين قاطعه شاب من جيل زد، وقد بدا عليه أثر المعرفة السريعة، والمصطلحات الطازجة، والثقة الزائدة. وبينما كان متكئًا على ثقافة العناوين، بدأ يشرح حديثًا نبويًا عن آخر الزمان، عارضًا تأويلًا من صنع خياله، وكأنه يقرأ سيناريو الحلقة الأخيرة من مسلسل لم يُعرض بعد.. ويشرحه بطريقته «الزديّة» الخاصة.
وتخيّلوا.. جيل زد يستقرئ المستقبل.
المثير للدهشة، أن المستمع -واحد من جيل واي- لم يعترض، لم يشكك، لم يبتسم حتى.. فقط هزّ رأسه وكأنه سمع شيئًا عظيمًا.
وهنا استدعاه الحنين فجأة إلى صورة قديمة.. قبل عشرين سنة تقريبًا، كان هو الشاب الصاعد، وكان أمامه أحد أبناء جيل إكس، يشرح نفس الحديث، ولكن بنبرة مختلفة. في ذلك الوقت، كان كل شيء مؤامرة، وكل تفسير مسنود بـ»معلومة خطيرة لا يعرفها كثير من الناس»، مع ثقة مفرطة في أنه الوحيد الذي فهم، الوحيد الذي رأى، الوحيد الذي يعرف متى يبدأ كل شيء.
جيل إكس – أو بعضهم – كان يتحدث كما لو أنه يمتلك تسريبات لا يملكها سواه، وكل جملة عنده تأتي بنبرة اكتشاف خطير. لديهم قدرة مذهلة على تطويع كل نص لخدمة نظريتهم الكبرى. الإيغو عندهم ليس تضخمًا بسيطًا، بل بنية تحتية متكاملة. كل جملة يقولونها يجب أن تُتبع بـ»اسمع مني، أنا عارف».
ومع ذلك، في ذلك الوقت.. هزّ رأسه أيضًا. نفس الهزة، نفس القبول، نفس الانبهار المصطنع، فقط اختلف اللباس وتغيّرت المنصات.
ليست المشكلة في الحديث، ولا في محاولة الفهم. المشكلة في انتقال التفسير الخاطئ من جيل إلى جيل، مع كل هذا الجزم، وكأنهم وجدوا مفاتيح الغيب في مقطع يوتيوب أو في فتوى منسوبة. والمشكلة الأكبر، أن هناك دائمًا من يهز رأسه في الخلف موافقًا، لا لاقتناعه، بل لأنه تعوّد أن يهز الرأس كلما سمع شيئًا يبدو عميقًا.
وربما لم تكن هزّته يومًا علامة تصديق، بقدر ما كانت تعبيرًا صامتًا عن أنه ليس في مزاج يسمح بالجدال مع جيل يؤمن أن المعلومة تبدأ من المنتديات، أو مع آخر يظن أنها تنتهي في مقطع تيك توك.
فهو لا يدّعي الفهم الكامل، لكنه أيضًا لا يتورط في استعراضه. وإن بدا مترددًا أحيانًا، ففي هذا التردد وعيٌ لم يبلغه السابقون ولا اللاحقون.
يشبه جيل واي كثيرًا ذلك الابن الأوسط في العائلة.. لا هو مدلل كالأصغر، ولا مرجِع كالأكبر، فقط يُتوقع منه أن يفهم الجميع، ويتحمّل الجميع، ويصمت في الوقت الخطأ. يُطلب منه أن يكون عاقلاً بين الطيشين، وأن يكون مرنًا حين لا يُطاق أحد.
ربما لهذا يهزّ رأسه كثيرًا، لا موافقة.. بل تسليمًا بدورٍ لم يختره، ولا يستطيع تغييره.
أما جيل ألفا، فصمته حتى الآن نعمة لنا جميعًا.. خصوصًا أن ما يلوح في الأفق، لا يُبشّر بالخير.