د.عبدالله بن موسى الطاير
الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- عندما يتحدث عن الدولة السعودية ينطق بلسان الخبير، المؤهل بالمعرفة التاريخية والسياق العام والخاص لتشكل الدول. لا أعتقد أن أحداً تخصص في دراسة الدولة السعودية كما فعل، ومن حسن حظ الباحثين أنه رأس مجلس دارة الملك عبدالعزيز فترة طويلة، ولذلك سكب في أقسام المعلوماتية عصارة معرفته وبخاصة في توحيد، وإدارة، وتنمية الدولة السعودية الحديثة؛ المملكة العربية السعودية منذ إعلانها عام 1932م بعد حروب الثلاثين عاماً التي بدأت بدخول الرياض عام 1902م.
استدعاء نظرية الملك سلمان في قيام الدولة السعودية، وهي نظرية تقوم على عنصرين أساسيين هما الفكر «الدعوة»، والقوة «السلطة السياسية» يبعث الإلهام في عصر يشهد انقسامات بين الدول وبين مكوناتها، وتصاعدا في حدة الشعبوية، بدءًا من تضعضع وحدة الاتحاد الأوروبي بسبب الأيدولوجيات المتصارعة داخل الكيانات الليبرو-ديموقراطية، بما يوحي به ذلك التنازع من تشظ هوياتي خطير، وصولًا إلى الجدل شديد الاستقطاب في أمريكا، مما يشير وبوضوح إلى أن خريطة العالم الجيوسياسية التي استقرت فترة غير طويلة من تاريخ البشرية توشك على عبور أزمات مرتقبة تعيد تشكيلها. الدول لا تولد من رحم الفوضى أو الصدفة، بل تنتج في مختبر «الفكر»، وأعني به الأيديولوجيات الجامعة، والهويات المشتركة، والرؤى الجماعية، مضافا إليها «القوة»، سواء أكانت عسكرية غاشمة «التغلب في الفكر الإسلامي»، أو سلطة مؤسسية. بدون هذا المزيج من تزاوج الفكر والقوة لم تولد في الماضي دول، ولن تتشكل مستقبلا.
الفكر هو الشرارة التي تقدح النار في الهدف الجماعي، فتتولد رؤيةٍ عالميةٍ متماسكة، تقودها قوة حازمة فتجمع شتات المجتمعات من قبائل وحواضر وتشكل منها كيانا قابلا للحياة. بدون ذلك تبقى تلك المجتمعات متناحرة، ومتنافسة تطغى عليها الولاءات العشائرية والهويات المحلية الضيقة التي لا تستطيع الصمود ولا البناء فضلا عن تحقيق الأمن والاستقرار.
انطلق الملك عبدالعزيز في حرب الثلاثين عاماً وفي ذهنه وقناعته فكرة عربية إسلامية موحدة، وفي يمناه حسام القوة الذي أزاح من يقف في وجه «رؤيته الوحدوية»، وروض المترددين، ولأنه استعان بالقوة على فرض الرؤية الجامعة، فإنه لم يحتفل بنصر عسكري قط، بل شرع بمجرد تحققه في بناء مكونات الدولة المدنية من تأسيس مجالس بلدية منتخبة من أبناء الحواضر التي يدخلها، ومجالس شورى، واستدعاء الوجهاء والتشاور معهم في مسؤولية إدارة نواحيهم، مهتم شخصيا بالنظام «تنصيب الأمير»، والعدالة تعيين القاضي.
المطلع على تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية يجد أن الأمريكيين وضعوا دستورا يربط 13 ولاية بناء على سردية مُتعمّدة واعدة بـالحياة والحرية والسعي والرفاه، وحشدت بذلك الفكر ضد الاستبداد البريطاني فكانت الرؤية التي وحدت القوة العسكرية التي هزمت بها الاستعمار. ليس ذلك فحسب، بل إن فكرة الوعد بحياة أفضل وبالحرية والازدهار الاقتصادي هي التي رجحت كفة الوحدويين بقيادة الرئيس الأمريكية إبراهام لنكولن لتخرج أمريكا من حربها الأهلية، وتصل لما هي عليه اليوم. وبالمثل، لم يكن توحيد ألمانيا عام 1871م بقيادة بسمارك مرتبطًا بـ»الدم والحديد» فحسب؛ بل ارتكز على الروابط العضوية والثقافية والروحية للشعب الألماني المتمثلة في اللغة المشتركة، والفولكلور، والتاريخ، وروح جماعية «فريدة»، وهي روابط فكرية وثقافية ولغوية تتجاوز التنافسات المناطقية التي جزأت المانيا. وهو المنطلق ذاته الذي وحد به الملك عبدالعزيز شبه الجزية العربية؛ فنحن قبائل وحواضر ومناطق مترامية الأطراف، يتحصن كل مكون خلف خطوط دفاعه القبلية والمصلحية، مغفلين العناصر الموحدة الجامعة المتمثلة في الدين الواحد، واللغة المشتركة، والعادات والتقاليد المتشابهة، والمصير المشترك. وبهذه العناصر الوحدوية إلى جانب القوة العسكرية انحسرت الحواجز المشرذمة لصالح الدولة الجامعة.
والأفكار ملهمة لا شك، لكن القوة وحدها هي التي تحقق الرؤى والأفكار. جادل الفيلسوف الإنجليزي، توماس هوبز، صاحب نظرية العقد الاجتماعي الحديثة، بأن الأفراد بدون تنظيم سيعيشون في حالة مستمرة من الحرب وانعدام الأمن، ورأى أن العقد الاجتماعي ضروري لإنشاء سلطة مركزية قوية للحفاظ على النظام ومنع الفوضى. وحده صاحب السيادة الذي يتمتع بسلطة مطلقة قادر على فرض النظام، وفرض الخضوع بحد السيف. وتُجسّد الثورة الفرنسية هذا المثال، فالمثل النبيلة التي نادت بها كالحرية، والمساواة، والإخاء، لم تتحقق بمجرد إعلانها والتوعية بأهميتها في عمارة الإنسان والمكان، لكنّ السيف، وجيوش نابليون هي التي رسّخت الدولة الفرنسية الحديثة، وقمعت الانتفاضات، وصدّرت الجمهورية إلى خارج حدودها الجغرافية.
لقد آمن المؤسس رحمه الله بفكرة قادرة على توحيد دويلات شبه الجزيرة العربية المتناحرة، وامتلك مهارة القيادة، ووسائل القوة العسكرية للتمكين لرؤيته الوحدوية، وخاض من أجلها حروبا على مدى ثلاثة عقود، لنحتفل باليوم الوطني السعودي 95 في عهد الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان أيدهما الله، ونحن أمة سعودية قوية موحدة، في أوج مجدها وذروة طموحها.