د. أحمد محمد القزعل
حقيقة، إن التربية الإبداعية ليست مجرد أسلوب تعليمي تقليدي، بل هي رؤية تربوية متجددة تهدف إلى تنمية القدرات العقلية والوجدانية للفرد بما يحرره من أسر النمط والتكرار، ويطلق طاقاته نحو الابتكار والتعبير والتفكير النقدي، إنها تربية تسعى إلى كسر القيود العقلية التي تصنعها المناهج الجاهزة، لتفتح أمام المتعلم آفاقاً جديدةً يحلق فيها بخياله، ويبحث عن حلول غير مألوفة، ويفكر خارج الصندوق بثقة وجرأة، والتربية الإبداعية تؤمن بأن الطفل لا يحتاج فقط إلى المعلومة، بل إلى القدرة على توظيفها وصياغة الجديد منها، فهي لا تركز على التلقين بل على التكوين، ولا على الامتثال بل على الاستقلال، إنها تربيةٌ تشكل شخصيةً حرةً مفكرةً ومبدعة، قادرةً على فهم الواقع وتحليل المعطيات وصنع الفرق.
وتكمن أهمية التربية الإبداعية في كونها الأداة الأقدر على تهيئة الإنسان لمواجهة تحديات العصر الحديث، حيث لم تعد المعارف الجاهزة كافيةً، ولم تعد الشهادات وحدها تصنع الفارق، فاليوم أصبح البقاء والتميز مرهونين بامتلاك مهارات التفكير العميق والتخطيط السليم والابتكار المستمر، هذا وإن التربية الإبداعية لا تنمي الفرد فقط، بل تسهم في بناء مجتمع معرفي متقدم، يمكن أبناءه من الإسهام الفعال في شتى مجالات الحياة من العلم والتكنولوجيا إلى الاقتصاد والثقافة والفنون، بل وتتعداها إلى تشكيل وعي حضاري متكامل يعزز التقدم والتطور، ولا يتوقف أثر هذه التربية عند الجانب المهني أو الأكاديمي، بل يمتد إلى الصحة النفسية للفرد، إذ تمنحه شعوراً بالثقة وتعزز لديه الإحساس بالإنجاز والانتماء والقدرة على تجاوز الفشل وصناعة النجاح، إنها تربيةٌ تربي الإنسان القادر على الفعل لا التلقي وعلى التغيير لا التكرار.
وتستند التربية الإبداعية إلى مجموعة من الأسس والمقومات الجوهرية التي تشكل بنيانها التربوي وتميزها عن أنماط التعليم التقليدي، حيث يأتي تشجيع حرية التعبير وإفساح المجال أمام الخيال ليأخذ مداه، بعيداً عن الكبت والتوجيه القسري، فالتعبير الحر هو البوابة الأولى نحو التفكير الأصيل والخيال هو الوقود الذي يحرك عجلة الإبداع، كما تقوم هذه التربية على احترام الفروق الفردية بين المتعلمين والاعتراف بتنوع المواهب وتعدد الاهتمامات، فكل طالب يحمل في داخله بذرةً مختلفة، تحتاج إلى رعاية خاصة لا إلى مقارنات تطفئ توهجها، ومن ركائز التربية الإبداعية أيضاً اعتماد أساليب تعليمية نشطة تتجاوز التلقين وتشرك الطالب في عملية التعلم، ومن أبرزها: التعلم القائم على المشاريع والتعلم التعاوني والتعلم من خلال المواقف الواقعية، وهذه الأساليب تخلق بيئةً حيةً تحفز التفكير والتفاعل والتجريب، كما ويعد توفير بيئة تعليمية آمنة ومحفزة شرطاً أساسياً في دعم الإبداع، إذ لا يمكن للعقل أن ينتج في أجواء من الخوف أو الرتابة، كما أن وجود معلمين مبدعين يؤمنون بالفكر الحر ويشجعون على الاستقلالية هو عنصرٌ حاسمٌ في تمكين الطالب من اكتشاف قدراته؛ ولأن المناهج هي الحاضنة الأولى للعقل فإن تطويرها لتشمل مهارات التفكير العليا: كالتحليل والنقد والتقويم والتركيب يعد خطوةً أساسية لجعل الإبداع ثقافة تربوية راسخةً لا خياراً ثانوياً. ولأن التربية الإبداعية لا تنمو عفوياً بل تحتاج إلى بيئة واعية وجهود منظمة، فإن تطويرها يتطلب حزمة من الخطوات المتكاملة تبدأ من إعداد المعلم نفسه، فالمعلم هو الركيزة الأولى في أي عملية تربوية، لذا لا بد من تدريبه على استراتيجيات التعليم الإبداعي وتمكينه من أدوات وأساليب حديثة تعزز تفكيره الخلاق وتساعده على إطلاق الطاقات الكامنة لدى الطلبة، كما ينبغي إعادة تصميم المناهج التربوية لتشمل مهارات التفكير الناقد وحل المشكلات والتعلم القائم على البحث والتجريب، فالمناهج التقليدية لم تعد كافية لصناعة العقول القادرة على التقدم بل تحتاج إلى مضامين ديناميكية تحفز السؤال لا الإجابة وتفتح باب الاحتمالات لا الحفظ، ولا يمكن الحديث عن تطوير إبداعي دون إدماج التكنولوجيا الحديثة في عملية التعلم، فهي الوسيط الأهم اليوم بين المتعلم والعالم والبوابة نحو عوالم من المعرفة والتجربة والاكتشاف، ويعد بناء بيئة تعليمية مرنة ومشجعةشرطاً أساسياً، فهي التي توفر للطلبة مساحة آمنة للتعبير وتجريب الأفكار وخوض المشاريع الفردية والجماعية دون خوف من الخطأ أو الإخفاق، وأما التقييم فيجب أن يتجاوز الامتحانات الورقية ليعتمد على قياس الأداء العملي والمشاريع الواقعية ومهارات التواصل والإبداع، فالمبدع لا يقاس بمعدل رقمي فقط بل بما يقدمه من أفكار وحلول ومبادرات، ولإحداث أثر حقيقي لا بد من إقامة شراكات فاعلة بين وزارات التعليم ومراكز البحث العلمي والجامعات بما يعزز التكامل بين الفكر النظري والتطبيق العملي ويتيح فرصاً أكبر لدعم الإبداع التربوي، ولا تقل مسؤولية الأسرة أهميةً في هذه المنظومة، فهي الحاضنة الأولى للطفل وشريكٌ أساسي في تشكيل شخصيته؛ لذلك فإن إشراك الأسرة في العملية التعليمية يعد داعماً جوهرياً لنجاح التربية الإبداعية، وفي السياق ذاته لا بد من إنشاء حاضنات تعليمية ترعى الموهوبين والمبتكرين وتوفر لهم مساحات للتجريب والتطوير مدعومةً بتمويل خاص يحفز الإبداع ويحتضن الفكرة حتى تصبح مشروعاً.
نهاية، علينا أن نعيد النظر بجرأة ومسؤولية في أساليبنا ومناهجنا، وأن نعيد صياغة العملية التعليمية ليكون الإبداع جوهرها والابتكار مسارها والتفكير النقدي أداتها، فالعقول لا تبنى بالحشو بل بالتحفيز، والمهارات لا تكتسب بالحفظ بل بالتجريب والتأمل والتساؤل، ونحن نملك القدرة على صنع الفرق بالتربية الإبداعية وبها وحدها نستطيع أن نشعل جذوة الأمل في نفوس أبنائنا، وأن نعد إنساناً جديداً قادراً على الفعل لا الترديد، والتغيير لا الجمود، إنساناً يسهم في بناء مستقبل أكثر وعياً وعدالة وإبداعاً.