د. عبدالحليم موسى
في كل عام حين ترتفع الأعلام وتتعالى الأصوات بالاحتفاء باليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، يتجلى للمراقب من بعيد وبالأخص من عيون سودانية مشهد أعمق من الاحتفال الظاهر، إنه مشهد الانتماء المزدوج؛ حب لوطن، وتقدير لشعب صار جزءاً من حياة السودانيين في السعودية، فاليوم الوطني ليس مجرد تاريخ، بل هو انعكاس لقيمٍ مشتركة، وعلاقات إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية.
السوداني في السعودية لا يعيش الحدث على مستوى الطقوس وحدها؛ بل على مستوى الروح، فهو يرى في اليوم الوطني امتداداً لقصة طويلة من العطاء الإنساني، حيث تشابكت أقدار الشعبين في ميادين العلم والعمل، فمن خلال المدارس والجامعات التي ساهم بعض علماء السودان في تأسيس كلياتها وأقسامها، وهنا يتجسد الحضور السوداني في وضع اللبنات الأولى للنظام التعليمي، معلماً ومرشدا، وناشراً المعرفة، وصانعاً جسوراً بين الثقافات.
وفي الحقل الطبي، يرتسم دوره الإنساني، طبيباً وممرضاً، يحمل راية الشفاء والمواساة، ويخفف الألم، ويزرع الأمل في كل ركن من أركان المملكة، حتى أصبحت سمعة الطبيب السوداني رمزاً للعطاء والتفاني لجميع المواطنين والمقيمين.
ولا يغيب البعد التاريخي عن هذه العلاقات بين الأشقاء، فقد ذكرت بعض الروايات أن السلطان علي دينار آخر ملوك دارفور، ترك إرثاً باقياً في عمق مفهوم الإنسانية بكل أبعادها، من خلال حفره آبار علي بالمدينة المنورة لسقيا الحجاج، ليصبح الماء رمزاً للحياة والعطاء، ولتستمر روابط التعاون والخدمة المجتمعية بين الشعبين عبر الزمن؛ هذه الآبار ليست مجرد مصدر ماء، بل شاهد حي على قيمة التضامن، وعلى أن العطاء لا يقتصر على الحدود الجغرافية، بل يتعداها ليشمل الإنسانية جمعاء، حتى قال ناصر محمد آل حسين في مقال بصحيفة مكة قائلاً: يا ليتني كنت سودانياً؛ فهذه العبارة تنمّ عن عمق الأثر السوداني في الوجدان السعودي.
أما في الرياضة، فالوجود السوداني حاضر في الملاعب، ليس فقط كلاعب، بل كمدرب وموجه، ومؤسس لبعض الأندية التي أسهمت في تطوير المشهد الرياضي السعودي، غرساً للقيم الرياضية وروح المنافسة الشريفة. فالسودانيون لم يأتوا ليشاركوا فقط، بل ليكونوا بناة للأندية، صانعي إرث رياضي يظل شامخاً في ذاكرة الرياضة السعودية، وشاهداً على تعاون الشعبين في تعزيز النشاط الثقافي والرياضي.
اليوم الوطني، بعيون سودانية، هو أكثر من ذكرى؛ إنه فلسفة حياة تُظهر أن الانتماء ليس مجرد بطاقة هوية، بل فعل ديناميكي مستمر من العطاء والتعاون والمشاركة في بناء مجتمع متماسك، حيث تتلاقى القيم والمبادئ بين شعبين؛ إنه احتفال بالحياة المشتركة، وبالروح التي تجعل من الحدود مجرد خطوط طول وعرض على الخريطة الوجدانية، بينما يظل القلب مفتوحاً على اتساع الإنسانية.
في هذا اليوم، حين يرفع كل سعودي علمه، يرفعه السوداني معه في قلبه، ليس كزائر أو غريب، بل كشريك في المسيرة الوطنية، وكمن يعرف أن الحب الحقيقي للوطن يظهر في العمل والعطاء، وفي كل ابتسامة تنمو على أرض تحمل في طياتها أحلام الناس من كل حدب وصوب، فالاحتفال باليوم الوطني بعيون سودانية هو درس في الأخوّة والوفاء، وتجربة فلسفية في فهم معنى الوطن، ليس كمكان فقط، بل كحقل إنساني متجدد من التعاون والمحبة والكرامة المشتركة.
الأخوة بين الشعوب ليست مجرد رابطة وجدانية عابرة، بل هي نداء كوني يتجاوز حدود الخرائط وصخب السياسة؛ فهذا طاغور شاعر الهند وفيلسوفها، قال: الوطنية الضيقة تصيب الروح بالعمى، أما الوطنية الحقيقية فهي التي تُنيرنا بإنسانيتنا المشتركة. إن هذا التصور يجعل من الأخوّة السعودية السودانية أكثر من مجرد علاقة تاريخية أو اجتماعية؛ إنها صورة مصغرة لفلسفة التلاقي الإنساني، حيث يصبح الاحتفال باليوم الوطني نفسه تمريناً على استدعاء معنى أوسع للوطن؛ وطن الروح، وطن الإنسان، وطن القيم التي لا تذبل لأنها مغروسة في وجدان الشعوب.