فائز بن سلمان الحمدي
في اليومِ الوطنيِّ تشرقُ الذّاكرةُ كفجرٍ متجدِّد، وتتعالى من أعماقِ التّاريخِ هتافاتٌ تشهدُ أنّ هنا وُلدَ المجدُ من رَحِمِ الفوضى، وهنا أشرقت شمسٌ لم تأفل منذ أن أطلتْ أوّلَ مرة، وهنا التأم الشتاتُ فصارَ وحدةً عزيزةً، وكيانًا مهيبًا يملأُ الدّنيا وقارًا وعزًّا. إنّه يومٌ لا نستعيد فيه ماضيًا مندثرًا، بل نستحضر ولادةً ثانيةً للأرض والإنسان، ونستعيدُ لحظةً قلبت وجه الجزيرةِ من صحراءَ موحشةٍ تُنهكُ ساكنيها، إلى وطنٍ وارفٍ بالطمأنينة، عزيزٍ بالكرامة، مُزدهرٍ بالعمران، معلنًا أنَّ مجدنا لم يكن عاريًا من الأصل، بل هو وِشاحُ الفطرة؛ عزٌّ طبعُنا، وشرفٌ جُبلنا عليه. لقد شاء الله أن يجعل هذه البقعةَ مهوى الأفئدة، ومقصدَ الأنظار، إذ قال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} فجعلها مَطلعَ النور ومشرقَ الرسالة. ثم اختار لها رجالًا علموا أنّ البناء لا يقوم إلّا على العقيدة، وأنّ الوحدة لا تُنتزع إلّا بسيفٍ ماضٍ وإرادةٍ لا تلين. فأطفأوا نيران الفتن، ورصّوا الصفوف، وأعلنوا أنّ وطنًا يولدُ من رحم التوحيد لا يُغلب، وأنّ رايةً كُتب عليها «لا إله إلا الله» لن تنكسر ما دامت السماوات والأرض، فإذا بالأمة تهتف في سِرّها وعلانيتها: عزّنا بطبعنا عقيدةٌ لا تُشترى، وإرادةٌ لا تُكسر.
أيّها الوطن العظيم، يا ميدان العزّ، ويا معقلَ الكرامة، ويا ملاذَ القلوب، في يومك المجيد نقف صفوفًا متراصّة كأنّنا جدارٌ لا يُثلم، أو بحرٌ متلاطمٌ لا يُغلب، نرفعُ رؤوسنا إلى السماء، ونمدُّ أبصارنا إلى الأفق، فنرى في كل نخلةٍ شامخةٍ رمزًا لصبرك، وفي كل جبلٍ عاتٍ صورةً لثباتك، وفي كل ذرة ترابٍ شاهدًا على مجدٍ خالد. هناك تُقرُّ العيون بأنَّ العزّ ليس طارئًا على تاريخنا، بل هو طبعٌ يسري في رمالنا كما يسري الماء في العروق. ليس الوطنُ أرضًا تُسكَن، بل روحٌ تسكنُ فينا، ودمٌ يجري في عروقنا، وقَسَمٌ يدوّي في أعماقنا ألّا حيادَ عن حبّه، ولا تقاعسَ عن خدمته، ولا بخلَ عن بذل الدم دونه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ». فكيف بمن يُقتل دفاعًا عن وطنٍ يجمع الدين والمال والأهل!
إنها لحظة تتجلّى فيها الحقيقة ناصعة: نحن قومٌ عزّنا في ثباتنا، وكرامتنا في فطرتنا. وهذه القوةُ اليوم هي مصانعٌ وجامعاتٌ ومختبراتٌ تنهض بالوطن، وتُرهِب الأعداء بعلومها وإتقانها. وفي اليوم الوطني تتجسّد صورةُ الإنسان الذي صنع النهضة؛ رجالًا ونساءً، كتبوا بأيديهم فصول العزّة، وغرسوا شجرة الطموح فأثمرت إنجازاتٍ أدهشت العالم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» فكان الإتقان سبيلنا إلى الرّيادة، والعزيمة وقودنا إلى المجد. وهكذا يعلو صوت الأجيال: إتقاننا هو سرّ عزّنا، وطبيعتنا هي معدن رُقيّنا. أيّها الوطن، إن كنتَ شجرةً باسقةً وارفةَ الظلال، فجذرُك الراسخُ هو الملكُ عبدالعزيز – طيّب الله ثراه – الذي غرسَك بيديه، وجمع شتاتك، وأعلى رايتك، فأصبحتَ بعد فرقةٍ وحدةً، وبعد ضعفٍ قوّةً، وبعد شتاتٍ منعةً. لقد صدق فيه قول الله تعالى: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، حتى غدا صوت التاريخ يردّد: منذ عهد المؤسّس والى عهد المجد، عزّنا كان وما يزال طبعًا لا يُزايد عليه أحد. وها نحن في عهدٍ متجدّدٍ بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيّده الله- ووليّ عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان – وفّقه الله – الذي أطلق رؤيةً مباركةً كشمسٍ أشرقت، ونهرٍ فاض بالحياة، رؤيةٌ تسير بك إلى المستقبل واثقَ الخطى، عاليَ المقام بين الأمم. فلهم منّا الشكرُ والوفاء، ولله الحمدُ أولًا وآخرًا.