د.ناصر بن حمد الهملان
الوطنية ليست مجرد مشاعر مؤقتة تتأجج في لحظة فرح أو انتصار، ولا هي شعارات تُرفع في المناسبات ثم تُنسى، بل هي قيمة متجذرة في أعماق النفس، تُترجم إلى سلوك يومي، وإلى عمل نافع، وإلى إخلاص في كل ما يُقدَّم لهذا الوطن الغالي.
الوطنية هي أن تحب وطنك بصدق، وأن تعكس هذا الحب في أقوالك وأفعالك وسلوكك، فهي ليست فقط ما يُقال، بل ما يُفعل.
حين كنت طفلًا صغيرًا، كنت أرافق والدي - حفظه الله - إلى صلاة الجمعة، وكنت أسمع دعاء الإمام الذي كان يتكرر في ختام كل خطبة: «اللهم ارزقنا الأمن والإيمان.» لم أكن أفهم آنذاك عمق هذا الدعاء، لكنني كنت أشعر براحة وسكينة كلما سمعته. كانت الكلمات تنساب إلى قلبي، وتمنحه الطمأنينة دون أن أعي معناها الكامل. كنت صغيرًا جدًا لأدرك ما هو الأمن، لكنني كنت أعيش في ظله، وأتنفسه دون أن أشعر بوجوده كقيمة منفصلة. هكذا يكون الأمن؛ حاضرًا دون أن يُرى، لكنه يغيب فتشعر بثقله وفقده فورًا.
مرت الأعوام، وجاءت تجربة حرب الخليج لتكون أول صدمة تفتح عيني على هذه النعمة العظيمة. كنت حينها في عمر يسمح لي أن أشعر بالخوف، لا سيما حين كنت أسمع صوت جرس الإنذار يدوي، وأنا بعيد عن المنزل. لحظات الهلع تلك زرعت في داخلي تساؤلات لم أعهدها من قبل: هل سأعود إلى بيتي بسلام؟ هل عائلتي بخير؟ كانت أسئلة بسيطة في ظاهرها، لكنها كانت بداية إدراك عميق لحقيقة الأمن، ولثقل المسؤولية، ولجلال الوطنية.
من رحم تلك اللحظات القاسية وُلد سؤال آخر: ما هي الوطنية؟
وبعد سنوات من التأمل، والمراقبة، والتجربة، أدركت أن الوطنية لا تُحصر في المفاهيم العامة ولا تُقاس بالكلمات الرنانة. الوطنية أعمق من ذلك بكثير. هي أن تُحسن في موضعك، وأن تؤدي دورك بأمانة، وأن تبذل الخير لوطنك مهما كان حجمه. هي أن يعتني الطبيب بمريضه بإخلاص، وأن يُدرّس المعلم طلابه بأمانة، وأن يبني العامل طريقًا بضمير، وأن يحفظ الجندي حدود بلاده بيقظة وتضحية.
الوطنية أن تطور ذاتك لتكون نافعًا، لا لنفسك فقط، بل لوطنك أولًا. أن تُنمِّي مهاراتك، وتحرص على علمك، وتكون إضافة إيجابية حيثما كنت. هي الكلمة الطيبة التي ترفع بها معنويات من حولك، وهي الابتسامة التي تزرع الأمل، وهي السلوك المسؤول في الأماكن العامة، وهي التربية الصالحة التي تصنع جيلًا نافعًا للمجتمع.
ومن الجوانب العميقة في فهم الوطنية، أن ندرك أن تمثيل الوطن لا يقتصر على الوجود داخله. فالوطنية لا تتقيد بحدود جغرافية، بل يعيشها الإنسان في كل مكان وزمان. فحين يكون المواطن في الخارج، سواء كان طالبًا أو سائحًا أو رجل أعمال أو موظفًا في بعثة أو شركة، فإنه يحمل معه اسم وطنه، ويمثله في كل حركة وسلوك. كل ابتسامة مهذبة، كل التزام بالقوانين، كل تفوق دراسي أو إنجاز علمي، هو تمثيل غير مباشر لهذا الوطن. وهنا تتجلى أسمى معاني الوطنية؛ أن يكون الإنسان سفيرًا لبلده في كل أرض، وأن يترك انطباعًا إيجابيًا ينعكس على وطنه وأهله.
لقد علمتني الحياة أن الوطنية لا تبدأ في الاحتفالات، بل تبدأ من البيت. من القدوة التي نمنحها لأبنائنا، من احترامنا للأنظمة، من وقوفنا مع الصالح العام، من دعمنا للمبادرات، ومن التزامنا بالأمانة والنزاهة في أبسط المواقف. كل فرد في هذا الوطن هو شريك في أمنه، ونمائه، ورفعته. فالموظف الذي يخدم الناس بوجه بشوش، والمواطن الذي يحافظ على ممتلكات الدولة، والطالب المجتهد، والتاجر الأمين، كلهم يسهمون في بناء وطن قوي ومستقر.
وفي مجتمع مسلم، تُضيء القيم الإسلامية طريق الوطنية. فالدين الحنيف لا يفصل بين الإيمان والعمل، ولا بين العبادة والواجب، بل يُعلّمنا أن حب الأوطان من الإيمان، وأن إعمار الأرض، وخدمة الناس، والعمل بإخلاص، كلها أعمال صالحة. فحين نربط الوطنية بالقيم الإسلامية، نرتقي بمفاهيمها، ونجعلها متجذرة في وجداننا وسلوكنا اليومي.
الوطنية في عيون الطفل هي الأناشيد والرايات، والفرح في المدارس، لكن في عيون الكبار، هي العمل بصمت، والعطاء دون انتظار، والإحساس الدائم بالمسؤولية. هي أن تُقدّم الخير، ولو لم يرك أحد، لأنك تفعل ذلك حبًا لوطنك، لا طلبًا لمدح أو شهرة. الوطنية الحقيقية لا تُقاس بالحجم، بل بالإخلاص؛ فكل عمل مهما صغُر، إذا كان نافعًا وصادقًا، فهو لبنة في بناء الوطن.
وفي هذا اليوم العزيز، اليوم الوطني السعودي الـ95، نقف فخورين بما تحقق، ومؤمنين بما هو قادم بإذن الله. نُجدد ولاءنا واعتزازنا بقيادتنا الحكيمة، التي وضعت مصلحة المواطن في قلب كل رؤية، وأرست دعائم الأمن، وسعت إلى تنمية مستدامة تُلامس طموحات الوطن والمواطن. نشكر الله على نعمته العظيمة، نعمة هذا الوطن، ونعمة الأمن، ونعمة القيادة الراشدة.
نبارك لأنفسنا، ولقيادتنا، ولشعبنا الكريم، هذا اليوم المجيد، ونسأل الله أن يديم على المملكة عزها، وأمنها، واستقرارها، وأن يبارك في أبنائها وبناتها، ليكونوا دائمًا كما عهدناهم، بناة وطن ومصدر فخر.
كل عام ووطني الحبيب بألف خير.
كل عام ونحن نرتقي به، ونحميه، ونخدمه بكل حب وولاء.