د. سفران بن سفر المقاطي
في الثالث والعشرين من سبتمبر لعام 2025م، يتجدد اللقاء السنوي للشعب السعودي الأصيل مع ذكرى تأسيس مملكته العريقة (المملكة العربية السعودية)، حيث يحتفل باليوم الوطني الخامس والتسعين، تحت شعار «عزّنا بطبعنا». يجسد هذا الشعار الفخر بالهوية السعودية وقيم الكرم، والأصالة، والطموح، والتضامن، لتعكس رموز الشعار مثل الدلة وجبل طويق هذه الصفات، وتربطه برؤية المملكة الطموحة 2030م لتعزيز الانتماء الوطني، وإبراز صورة المملكة الإيجابية إقليمياً وعالمياً كقوة ناعمة تعتمد على قيم ثقافية وإنسانية مشتركة مع الآخرين.
تأتي هذه المناسبة ليست مجرد احتفاء تقليدي بتاريخ مجيد، بل هي لحظة تأمل عميقة في مسيرة وطن بني على أسس الوحدة والتضحية، وتجسد روحاً إنسانية خالدة تتجلى في كل خطوة من خطوات الوحدة. إنها تجمع بين الفخر بالماضي والطموح نحو المستقبل، حيث يستذكر السعوديون تضحيات المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (طيب الله ثراه) الذي أرسى دعائم دولة عربية حديثة قوية ومتماسكة بعد زمن طويل من الفرقة والشتات، ويحتفلون في الوقت نفسه بقيادة حكيمة تستمر في تنمية هذه الدولة العظيمة، ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - اللذين يقودان المملكة نحو آفاق جديدة من الازدهار والريادة العالمية في بناء الدولة وخدمة الإنسانية.
وفي هذا السياق، يبرز اليوم الوطني كرمز للوحدة الوطنية، ويعكس كيف تحولت معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية إلى وطن نابض بالأمل والحياة، مدفوعاً بروح إنسانية عميقة تركز على رفاهية الإنسان وتعزيز السلام والتضامن.
يبدأ سرد هذه الملحمة السعودية العظيمة من جذورها التاريخية، حيث كانت أرض المملكة قبل توحيدها غارقة في دوامة الصراعات القبلية والتشرذم الاجتماعي والسياسي، مما أدى إلى معاناة شعبها من الفقر، والجهل، والمرض، والانقسامات. برز دور المؤسس الملك عبدالعزيز (رحمه الله) كقائد استثنائي، مدفوعاً برؤية إنسانية عميقة تهدف إلى جمع الشتات وإنهاء المعاناة.
لم يكن توحيد المملكة مجرد حملة عسكرية، بل كان مشروعاً إنسانياً شاملاً استمر لأكثر من ثلاثة عقود، بدءاً من استعادة الرياض عام 1902م، وصولاً إلى إعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1932م. كان الملك عبدالعزيز يرى في الوحدة سبيلاً لتحقيق العدالة الاجتماعية والأمان لكل فرد، فجمع القبائل المتناثرة تحت راية التوحيد (لإله إلا الله محمد رسول الله)، مستنداً إلى مبادئ الإسلام التي تؤكد على التكافل والرحمة. يصف المؤرخون المنصفون هذه المرحلة كثمرة لصبر استراتيجي وحكمة دبلوماسية وحنكة سياسة للمؤسس، لكون توحيد المملكة كان مشروع حياة استمر لأكثر من ثلاثة عقود، وأن الملك المؤسس أرسى بنية سياسية واجتماعية واقتصادية أصبحت لاحقاً نموذجاً يُحتذى به في المنطقة والعالم. تجلت هذه الرؤية الإنسانية في كيفية تعامله مع الخصوم، حيث كان يفضل الحوار والمصالحة على الصراع، مما ساهم في بناء مجتمع مترابط يعتمد على الثقة المتبادلة والاحترام.
ولم تقتصر إنجازات الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على توحيد المملكة سياسياً وعسكرياً فحسب، بل امتدت لتشمل بناء دولة حديثة تستند إلى مؤسسات متينة تهدف إلى خدمة الشعب السعودي وتحقيق رفاهيته. فقد أسس مجلس الشورى ليكون منصة لمشاركة المواطنين في اتخاذ القرار، وأطلق الوزارات الأساسية مثل المالية والخارجية والصحة، واضعاً بذلك الأسس الأولى لدولة عصرية تضع الإنسان في قلب اهتماماتها. كما حرص على ترسيخ الأمن والعدالة من خلال نظام قضائي مستقل يضمن الحقوق لجميع المواطنين دون تمييز قبلي أو اجتماعي أو مذهبي.
وعلى صعيد البنية التحتية، أشرف الملك عبدالعزيز على إنشاء أوائل وسائل المواصلات الحديثة التي ربطت مناطق المملكة وفتحت آفاق التعاون مع العالم، مما أسهم في تعزيز التجارة ورفع مستوى المعيشة. وقد جاءت هذه التحولات مدفوعة بروح إنسانية سامية، حيث كان يرى في كل مشروع تنموي خطوة نحو مجتمع أكثر عدلاً وازدهاراً.
ويعد اكتشاف النفط في عهده نقطة تحول كبرى، إذ أسس شركة أرامكو لتكون رافداً رئيسياً لتمويل التنمية الوطنية، مما مكّن المملكة من الانتقال إلى مصاف الدول الاقتصادية الكبرى. استُثمرت تلك الثروات لتعزيز التعليم والصحة والبنية التحتية، وخلق فرص عمل جديدة ساهمت في تحسين حياة المواطنين على كافة الأصعدة.
أما في خدمة الحرمين الشريفين، فقد تجلت الروح الإنسانية النبيلة للملك عبدالعزيز بشكل أكثر وضوحاً، إذ أشرف بنفسه على توسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي، وطور خدمات الحج ليصبح أكثر أماناً وكفاءة، مما يعكس حرصه على راحة ضيوف الرحمن من جميع أنحاء العالم. كان يرى في ذلك واجباً دينياً وإنسانياً، يجمع بين الالتزام الإسلامي والرعاية للبشرية جمعاء. كما لم يقتصر دوره على الجانب الديني، بل سعى إلى توحيد كلمة المسلمين وتعزيز التضامن العربي والإسلامي، فأسهم في تأسيس جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة، وأوقف التدخلات الأوروبية في شؤون الحج، مما أكد بُعد نظره السياسي وحرصه على الاستقرار الإقليمي والدولي. جعلت هذه الجهود المباركة من المملكة مرجعية إنسانية، دينية وسياسية، تعزز قيم السلام والحوار بين الدول والشعوب، وتؤكد أن الريادة الحقيقية تكمن في خدمة الإنسانية بعيداً عن النزاعات والاختلافات.
واستمرت مسيرة البناء والتنمية تحت قيادة الملوك الذين تعاقبوا على حكم البلاد، كل منهم يضيف لبنة جديدة في صرح الوطن، محافظين على الإرث الإنساني الكبير الذي ارساه المؤسس الملك عبدالعزيز (رحمه الله).
ومنذ تولي الملك سلمان الحكم عام 2015 والأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد ورئيسًا لمجلس الوزراء (حفظها الله)، شهدت المملكة بدء مرحلة جديدة من التطوير والإنجاز عبر عدة مشاريع ومبادرات كبيرة ونوعية من خلال تطوير بيئة الحكومية تنظيمياً وإدارياً وبناء الأنظمة وتطويرها واستكمال البنية القانونية لمجالات الحياة المختلفة، ومن أبرز هذه المبادرات رؤية 2030م التي أطلقت في 25 إبريل 2016م، وهي خطة طموحة تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، مع التركيز على بناء مجتمع حيوي يرعى الإنسان في كل جوانب حياته.
تأتي هذه الرؤية كمشروع وطني شامل يهدف إلى بناء مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح، لتعكس هذه الرؤية، التزاماً عميقاً من القيادة الرشيدة بتمكين الشعب السعودي (خاصة الشباب والمرأة) ليكونوا شركاء فاعلين في التنمية والتطوير، مما يعزز الشعور بالانتماء والمسؤولية الجماعية.
وفي ظل هذا العهد الزاهر، شهدت المملكة أيضاً تحولات جذرية اقتصادية لتحقيق التوازن الاقتصادي وتنمية الإيرادات غير النفطية لتعكس الروح الإنسانية والإدارية الحكيمة للدولة في إيجاد فرص متساوية للجميع والعناية بفئات المجتمع المختلفة بإنشاء حساب المواطن وتطوير أنظمة الضمان الاجتماعي. كما تم إطلاق مشاريع عملاقة مثل مدينة نيوم، التي تُعد نموذجاً للمدن المستدامة المستقبلية، ومشروع القدية كمركز ترفيهي عالمي، ومشروع البحر الأحمر الذي يركز على السياحة البيئية. هذه المشاريع ليست مجرد استثمارات، بل هي وسيلة لإيجاد ملايين الوظائف ودعم رواد الأعمال، خاصة الشباب، من خلال برامج تدريبية وتمويلية تجعل كل فرد قادراً على تحقيق طموحاته. وضمن هذا السياق أطلق مبادرات عديدة أخرى مثل برنامج «رؤية الشباب» التي تم إطلاقها في إطار رؤية السعودية 2030م لتمكين الشباب السعودي ودعم طاقاتهم وإبداعاتهم لتمكينهم من اكتساب المهارات الرقمية والابتكارية، مما يعزز الثقة بالنفس ويقلل من البطالة بين الشباب السعودي. كما أن تمكين المرأة السعودية يمثل جانباً إنسانياً بارزاً في هذا العهد، حيث سُمح لها بقيادة السيارة عام 2018م، وتقلدت مناصب قيادية في الحكومة والقطاع الخاص، مع ارتفاع نسبة مشاركتها في سوق العمل إلى أكثر من 30 %.
ولم تغفل القيادة الرشيدة عن الجانب الاجتماعي والبيئي، فتم تحسين منظومة التعليم من خلال إصلاحات تركز على الجودة والابتكار، وتطوير الرعاية الصحية ببناء مستشفيات حديثة وبرامج وقائية، مما يعكس حرصاً على صحة الإنسان كأولوية قصوى.
كما أطلقت مبادرات مثل «السعودية الخضراء»، التي تهدف إلى زراعة مليارات الأشجار وزيادة المساحات الخضراء في المملكة، مع تقليل الانبعاثات الكربونية في خطوة تعبر عن مسؤولية إنسانية تجاه الأجيال القادمة، لتعكس المشاريع البيئية الكبرى إدراك المملكة لمسؤوليتها الدولية في مواجهة التغير المناخي، وتؤكد التزامها بالتنمية المستدامة.
وفي المجال السياحي، شهدت المملكة انفتاحاً غير مسبوق، مع تنظيم فعاليات مثل موسم الرياض وفتح التأشيرات السياحية، وتطوير مشاريع سياحية ثقافية كـ «الدرعية» التي تعزز الهوية التاريخية. ويشيد عدد من خبراء السياحة بجهود المملكة في جعلها وجهة سياحية عالمية، مما يفتح أبواب التبادل الثقافي ويعزز الفهم المتبادل بين الشعوب.
وعلى الصعيد الثقافي أيضاً، شهدت المملكة طفرة في الإنتاج الإبداعي، مع تأسيس الهيئات الثقافية، ودعم صناعة السينما والمسرح والفنون البصرية، وتوسيع دور المتاحف والمعارض، ما عزز حضور الثقافة السعودية في المحافل الدولية.
كما شهدت المملكة انفتاحاً على الحوار الحضاري، واحتضنت مؤتمرات وملتقيات جمعت مثقفين وفنانين من مختلف دول العالم، ما أسهم في تعزيز التفاهم والتقارب بين الشعوب.
وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، تواصل المملكة دورها المحوري في نشر السلام والاستقرار والتنمية، مدفوعة بروح إنسانية ترى في العطاء سبيلاً للبناء، وذلك بطرح مبادرات لحل النزاعات في أوكرانيا، واليمن وسوريا والعراق، ودعمت القضية الفلسطينية بمبادرة السلام العربية وحل الدولتين. وفي المجال الإنساني الإغاثي، أسست المملكة مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، الذي يقدم مساعدات لأكثر من أربعين دولة، مع استضافة قمم عالمية تهدف إلى حل النزاعات سلمياً مما يعكس رؤية إنسانية تجمع بين الحكمة والرحمة مما جعلها نموذجاً في العطاء الإنساني.
وفي الختام، ومع حلول اليوم الوطني الـ 95، تتجسد أمام السعوديين مسيرة وطنية حافلة بالتضحيات والإنجازات، يتعزز معها الولاء والانتماء، وتترسخ القيم التي تأسست عليها المملكة. إن اليوم الوطني السعودي ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو مناسبة لتجديد العهد والوعد بأن تظل المملكة منارة للسلام والتسامح، وقوة للنماء والعطاء، وحصناً للهوية الأصيلة في عالم سريع التغير. وبينما يرفرف العلم السعودي خفاقاً، يبقى الوطن رسالة أمل، ومشروعاً إنسانياً متجدداً، يواصل رحلته نحو المزيد من الإنجازات، ملتزماً بخدمة الإنسانية، وداعماً لقيم الخير والسلام، وشاهداً على أن عز المملكة في طبعها، وفي أصالة شعبها وقيادتها الرشيدة، وبالتالي فإن ما تحقق من نهضة وتنمية في ظل قيادة الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان هو امتداد طبيعي لإرث الملك المؤسس عبدالعزيز.
واليوم، يقف السعوديون صفاً واحداً خلف قيادتهم، يتطلعون إلى مستقبل أكثر ازدهاراً، يؤمنون بأن وحدتهم هي سر قوتهم، وأن التمسك بقيمهم هو بوابة ريادتهم العالمية.