عبدالوهاب الفايز
في فترة رئاسته الأولى (2017 - 2021)، قدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هدية لم يتوقعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن تأتي سريعًا وبدون ثمن كبير: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في مايو 2018. كانت هذه الخطوة مفاجأة لأصدقاء إسرائيل في واشنطن، الذين لاموا ترامب على اتخاذها دون مقابل يخدم عملية السلام مع الفلسطينيين، مثل تقديم تنازلات إسرائيلية. وهذا ما أراده ترامب ونتنياهو من «السلام» مع السعودية: اتفاقيات تطبيع دون شروط جذرية. لكن الموقف السعودي بقي ثابتًا على المبادئ، كما في المبادرة العربية للسلام لعام 2002: لا تطبيع دون حل الدولتين والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة.
والآن، مع تسارع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، تبرز أهمية دور المملكة العربية السعودية وفرنسا في حشد التأييد الدولي. في سياق التطورات الدبلوماسية الأخيرة، لعبتا دورًا محوريًا في تعزيز الزخم نحو الاعتراف بدولة فلسطين، خاصة خلال مؤتمر الأمم المتحدة المشترك الذي ترأساه في نيويورك من 28 إلى 30 يوليو 2025، والذي أسفر عن «إعلان نيويورك» المعتمد من قبل أغلبية ساحقة في الجمعية العامة في 12 سبتمبر 2025، ويركز على حل الدولتين كأساس للسلام الدائم في الشرق الأوسط.
هذا الإعلان، الذي يُعد خريطة طريق لإنهاء الاحتلال وإعادة الإعمار، شمل تعاونًا وثيقًا بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وساهم في دفع دول أوروبية وغربية أخرى، مثل بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال، لإعلان الاعتراف الرسمي، مما يعكس قدرة الدول على تجاوز الخلافات التقليدية وتوحيد موقف دولي أوسع.
يُعد هذا الدور امتدادًا لجهود فرنسية سابقة، حيث أعلنت باريس الاعتراف الكامل بدولة فلسطين خلال قمة الأمم المتحدة الاثنين الماضي، مرتبطًا بخطة «يوم ما بعد الحرب» البالغة 42 نقطة، تم تطويرها بالتعاون مع السعودية لضمان الاستقرار والأمن، بما في ذلك إطلاق سراح الرهائن وإجراء انتخابات فلسطينية.
هل يعكس هذا التطور الكبير قدرة السعودية على استثمار علاقاتها ومكانتها الاقتصادية وتاريخها في التوسط الإيجابي في النزاعات لنجاح عملية السلام؟
نعم، يُشير إلى قدرة متزايدة للمملكة على تحويل نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي إلى أدوات وساطة، كما في دعمها لإحياء المبادرة العربية للسلام لعام 2002، التي تربط التطبيع مع إسرائيل بحل الدولتين. هذا الدور يعزز موقع الرياض كوسيط محايد، خاصة مع الرغبة في تعزيز السلام في المنطقة.
الأهم في المشهد الساخن المتسارع هو الاعتراف البريطاني بدولة فلسطين. يحمل هذا الاعتراف دلالات سياسية ودبلوماسية متعددة، أبرزها تعزيز الشرعية الدولية لفلسطين كخطوة رمزية نحو الاعتراف الشامل بدولة فلسطين ضمن حدود 1967، بما في ذلك القدس الشرقية عاصمة لها. هذا يدعم الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة، وقد يُسهم في تسهيل عضوية فلسطين كدولة مراقبة كاملة.
كما يشكل ضغطًا على إسرائيل، حيث يأتي في سياق التصعيد في غزة، ويُرى كإشارة إلى بريطانيا بأنها تبتعد عن الولايات المتحدة وإسرائيل في سياساتها، مما قد يؤثر على المفاوضات المستقبلية حول الاستيطان والأمن. طبعًا علينا ألاَّ نتفاءل كثيرا، لا يمكن لبريطانيا أن تُقدم على خطوات تتعارض مع المصالح الأمريكية الكبرى، فالحكومة البريطانية أكدت أن الاعتراف لا يعني (إنشاء دولة فوريًا)، بل جزءًا من عملية سلام تدريجية.
هل يُعد هذا تصحيحًا للخطأ التاريخي البريطاني؟ دون شك، ساهمت سياسات بريطانيا في أزمات عديدة لشعوب الشرق الأوسط، وأكبر المعاناة تجرَعَها الشعب الفلسطيني. الدور التاريخي لبريطانيا في النزاع، خاصة وعد بلفور لعام 1917 الذي وعد بـ»إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين» دون استشارة السكان العرب الأصليين، ساهم في تصعيد التوترات أثناء الانتداب البريطاني (1917 - 1948). كما أدى قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين عام 1947، الذي دعمته بريطانيا، إلى حرب 1948 والنكبة، التي أدت إلى نزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين وإنشاء دولة إسرائيل، وكانت «كارثة إنسانية كبرى».
في سياق التفكير الإيجابي، يُمثل الاعتراف البريطاني خطوة تصحيحية رمزية بعد 108 سنوات من وعد بلفور، حيث يعترف بـ»الحقوق التاريخية» للفلسطينيين ويُساهم في إعادة التوازن نحو عدالة تاريخية. ومع ذلك، يُرى من قبل آخرين - بما في ذلك بعض الدوائر الإسرائيلية والأمريكية - كخطوة سياسية تُضعف إسرائيل دون حل جذري للقضايا الأساسية مثل اللاجئين والحدود. في النهاية، يظل هذا الاعتراف خطوة إيجابية نحو السلام، لكنه لا يُنهي النزاع؛ إذ يتطلب تنفيذًا دوليًا مشتركًا لتحقيق حل الدولتين المستدام.
طبعًا، جاء رد فعل نتنياهو على الاعتراف البريطاني كالمتوقع، ويعكس حالة (غطرسة القوة) التي يتحلى بها، حيث كان الرد حادًا ومباشرًا، وصف الخطوة بأنها (جائزة سخيفة للإرهاب)، مؤكدًا أن (دولة فلسطينية لن تُنشأ.. لن يحدث ذلك)، وهدد باتخاذ إجراءات عملية للرد، تضمن تهديدات بتصعيد محتمل مثل ضم أجزاء من الضفة الغربية. هذا النهج متوقع، حيث يستقوي نتنياهو بالدعم الأمريكي لحكومته اليمينية المتطرفة حتى تواصل مشروعها الاستعماري الاستيطاني نحو تحقيق حلم (إسرائيل الكبرى)، وهو المشروع الذي يدعمه الرئيس ترامب، معتبرًا أن إسرائيل تستحق مكانة في الشرق الأوسط الواسع جغرافيًا. الرئيس ترامب لديه قناعه رددها مرات عديدة وقالها صراحة في أغسطس 2024: «مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها».
(غطرسة القوة) هذه، التي يتسلح بها نتنياهو، مصدرها الحقوق التاريخية التوراتية والتفوق العسكري الأمريكي وهيمنته السياسية، دون مراعاة التوازنات الدبلوماسية أو الرأي العام الدولي. سوف يواصل معارضة الاعتراف في الأمم المتحدة خلال الجمعية العامة هذا الأسبوع، لمنع أي قرارات تُعزز الشرعية الفلسطينية، وسيضغط على حلفاء إسرائيل لسحب الدعم أو فرض عقوبات دبلوماسية، مثل تقليل التعاون الأمني مع بريطانيا. مهما جمع نتنياهو من (خيله ورجله) واستعان بأعوانه من «شياطين السياسة والمصالح الغربية»، لن يُعيد مسار التاريخ، فالشعوب الغربية قلبت الموازين على وحشية وغطرسة إسرائيل. وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في كشف حقيقة الوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وسرعت بالاعتراف الدولي الواسع. في عصرنا الرقمي، أصبحت هذه المنصات أداة قوية لتشكيل الرأي العام وكشف الحقائق المخفية. فعلا إذا الكثرة تغلب الشجاعة، فالحضور الشعبي الغامر في الفضاء الرقمي تغلب على الصهاينة!
في سياق النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، الذي يمتد لعقود، تقدم هذه المنصات دورًا محوريًا في كشف جوانب من السياسات الإسرائيلية، خاصة الوحشية في غزة والانتهاكات المستمرة في الضفة الغربية لحقوق الإنسان. من خلال نقل الصور والفيديوهات المباشرة والحية من مناطق النزاع، ساعدت في تحدي السردية الإعلامية التقليدية الذي غالبًا ما تميل لصالح إسرائيل.
لقد تم كسر هيمنة الإعلام التقليدي الغربي الموالي الذي اعتمدت عليه إسرائيل لترسيخ روايتها حول النزاع. غيرت وسائل التواصل الديناميكية بشكل جذري؛ من خلال تيك توك وإنستغرام، أصبح بإمكان الفلسطينيين نقل روايتهم مباشرة إلى الجمهور العالمي دون وسيط. خلال الحرب الجارية على غزة في 2023 - 2024، تنتشر آلاف الفيديوهات التي توثق الدمار الناتج عن القصف الإسرائيلي، بما في ذلك الهجمات على المستشفيات والمدارس. هذا أدى إلى قناعة الشعوب بأن الوحشية الإسرائيلية تمارس «الإبادة الجماعية».
لقد استعادت الشعوب والحكومات في العالم وعيها، ورأت إسرائيل على حقيقتها، والمشروع الصهيوني في فلسطين أول من تصدى له أغلب اليهود الذين رفضوا منذ البداية وعد بلفور ومشروع إسرائيل. والآن العالم جميعًا يرفضه ويقاومه ويتخلى عنه. فقط (الحكومة الأمريكية) هي التي تدعمه وتحميه، رغم أن الشعب الأمريكي - خاصة الأجيال الجديدة - أعلن إدانته لإسرائيل، وخير دليل الحشود الكبيرة التي اجتمعت لتأبين شارلي كيرك في الأحد الماضي، بعد اغتياله في 10 سبتمبر في يوتا، حيث بقيت دوافع الاغتيال معلقة برفضه لسياسات إسرائيل ونتنياهو. وهناك اتهامات واسعة متداولة بأن إسرائيل دبرت الاغتيال لإسكات الأصوات المعارضة، خاصة بين الشباب، ونفى نتنياهو هذه «النظريات المؤامرة السخيفة»، لكنها أثارت أكثر من 10,000 منشور على وسائل التواصل يلومون إسرائيل. ربك يمهل.. ولا يهمل.