محمد بن سالم بن علي جابر
مع كل ذكرى لليوم الوطني السعودي، تتوهج في الذاكرة الحضرمية صور من الشعر والتاريخ، تختلط فيها مرارة المنفى بضياء الانتماء. ولعل أبرز ما يطفو على سطح هذا الوجدان قصيدة الشاعر الحر صلاح أحمد لحمدي القعيطي اليافعي، المعروفة بـ«الصيحة» أو «الصمعاء»، تلك الصرخة التي أطلقها في وجه الاستعمار البريطاني، والتي تحولت إلى نشيدٍ وجداني يُلخص حال حضرموت في منتصف القرن العشرين: وطنٌ يتألم تحت وطأة الهيمنة الأجنبية، وشعبٌ يتأرجح بين خيار الهجرة القاسية، أو التمسك بالجذور ومقاومة الانكسار.
وفي الأبيات الأخيرة من القصيدة يرفع الشاعر منسوب الوجع والقلق فيقول:
يا حر جوفي يا حياة الذل يا حرق الكبود
قده أحسن المسراح والمسكن يقع في أرض الزيود
والا إلى مكة نترعوى لفيصل بن سعود
ابن الإمام العادل المنصف على رغم الحسود
هو جاور الكعبة وجار المصطفى فخر الوجود
عليه صلى الله دائم حل حنات الرعود
كانت «الصيحة» أكثر من قصيدة، بل بوحُ شعبٍ يبحث عن الأفق. وفي لحظة احتدام المعاناة، لم يجد الشاعر في وجدانه ملاذًا أسمى من الحجاز، مكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث جاور الكعبة بيت الله الحرام، وحيث والي الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز -في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز- بدا رمزًا للعدل والفخر العربي، ومركزًا لمخيلة حضرمية رأت في الحرمين الشريفين حضنًا آمنًا يبدد غربة الاستعمار ويمنح الكرامة.
لم تكن الهجرة إلى أرض الحرمين - كما رسمها القعيطي - مجرد انتقال جغرافي، بل عودة إلى المعنى العميق للانتماء. فقد جسدت المملكة في وعي الحضارم أملاً للتحرر، وملاذًا يحتمي بجوار بيت النبوة، ومصدراً لطمأنينة الفرد وكرامة الجماعة. ومن هنا، لا يُستغرب أن تتحول أبيات القصيدة إلى خارطة وجدانية، رسمت اتجاهات المهاجرين الحضارم: فمنهم من قصد شمال اليمن - صنعاء والحديدة - بعيدًا عن سطوة الإنجليز، لكن غالبيتهم الساحقة اختاروا الحجاز ونجد، ليلتحموا بالنسيج الاجتماعي والاقتصادي والديني، حاملين معهم عاداتهم وتجارتهم ووفاءهم، ليسهموا في صياغة ملامح الحياة الجديدة إلى جانب إخوانهم في أرض الحرمين.
وعند استذكار اليوم الوطني السعودي، تتكشف قيمة هذا الموروث الرمزي الذي حملته «الصيحة». فهي لم تُعبر عن شاعر فقط، بل عن نزوع جمعي نحو مركز العزة العربية، حيث توحدت أقاليم شاسعة في كيان سياسي صلب أسسه الملك عبدالعزيز عام 1351هـ/ 1932م. لقد صار ذكر آل سعود في القصيدة الحضرمية علامة للتوق إلى الحرية والانتماء، وصار اليوم الوطني رمزًا لنهضة عربية شاملة، امتد إشعاعها ما وراء الحدود.
ولم يقف الشاعر عند رسم معاناة جيله، بل أضاء طريقًا نفسيًا واجتماعيًا للهجرة الحضرمية التي وجدت في جوار آل سعود عدلاً وحماية. وما يزيد من عمق الصياغة الشعرية أنها استحضرت بذكاء العلاقات التاريخية الممتدة بين حضرموت والدولة السعودية منذ تأسيسها الأول على يد الإمام محمد بن سعود، حيث توالت وفود البيعة الحضرمية إلى الدرعية، لتنضوي تحت راية التوحيد، وتشارك الدولة الوليدة في حمل لواء العروبة والإسلام.
واليوم، في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، تتواصل هذه العلاقة المتينة في إطار أشمل، حيث ينخرط الحضارمة في المملكة كأبناء أوفياء، يسهمون في مشاريع التنمية، ويكتبون بأدوارهم النشيطة فصلًا جديدًا في تاريخ المشاركة والبناء. لقد حملوا الامتنان في قلوبهم، وأثبتوا وفاءهم عبر اندماج حضاري بنّاء، جعلهم جزءًا أصيلًا من مشهد النهضة الشاملة وركيزة في مسار رؤية المملكة 2030.
إن «الصيحة» في أبعادها المختلفة ليست مجرد أثر شعري، بل وثيقة هوية. فهي تجسد كيف التقت معاناة حضرموت مع نهضة المملكة، وكيف اندمج صوت المقهور بالمنفى مع نداء الانتماء، ليغدو اليوم الوطني السعودي مناسبةً يتجدد عندها المعنى: أن الوطن ليس حدودًا جغرافية فقط، بل هو ملاذ عزّة، ورمز بقاء، وبيت يجمع الشتات.
وفي هذا اليوم الأغر، يوم العز والفخر، نقف جميعًا - حضارم وسعوديين، أبناء الجزيرة وأحفاد التاريخ - لنردد بأن المملكة ليست مجرد وطن، بل هي بيتنا الكبير الذي جمعنا تحت راية التوحيد، وصار لنا عنوانًا للكرامة وسقفًا للأمان. في اليوم الوطني، لا نحتفل بذكرى تأسيس وحّد أرضًا فحسب، بل نحتفل بميلاد أمة تستمد قوتها من الكعبة والمدينة، ومن إرادة قيادةٍ آمنت بالعدل والتنمية والعلو بالإنسان. فلنرفع أصواتنا كما رفع القعيطي من قبلنا «صيحته»، لكننا اليوم نصيح صيحة فخر وابتهاج، بأننا جميعًا جزء من هذه المسيرة الزاهرة، مسيرة وطنٍ خالدٍ في القلوب، خالدٍ في التاريخ، خالدٍ في المجد.
قصيدة «الصيحة» (وتُسمى أيضًا «الصمعاء») للشاعر صلاح أحمد لحمدي القعيطي اليافعي
وهي من أشهر القصائد الوطنية والسياسية في تاريخ حضرموت الحديث:
أبديت بك وادعوك يا جيد وغيرك ما يجود
أسألك غفرانك إذا بيتت وحدي في اللحود
لا هم من دنيا ولا من عشق منسوع الجعود
عسى يقع مسكني في الجنة وعلى الحوض الورود
ساكن في الدكن بلد عثمان سلطان الهنود
لكننا تأثرت من خفض الشرف بعد الصعود
راحت جهة لحقاف لحمة، فاس سرحت بالبرود
آه على الأوطان يا غبني على مثوى الجدود
لكننا معذور واحد عود ما منه وقود
وين بن مطلق ربيعة وين بن سالم عبود
لي يرعضون السيل مجرى يطلعونه في سنود
وين الشنافر وين نهد اللي يزرون الشدود
والعوبثاني هو ويا سيبان شرحان الحدود
وين الذي قالوا حميناها بأسرار الجدود
يا حر جوفي يا حياة الذل يا حرق الكبود
والا إلى مكة نترعوى لفيصل بن سعود
هو جاور الكعبة وجار المصطفى فخر الوجود
يا حي يا قيوم يا مطلق من الساق القيود
قال القعيطي: طول ليلي ما تهنيت الرقود
شيبه في التسعين متوجه إلى دار الخلود
ولا علي قاصر، ولا السلطان يطلبني نقود
سلطان بن سلطان على العزة يذود
أخبار بلغت ما تسر القلب من أرض النجود
راحت مع الصاحب بلا قيمه ولا سلم نقود
كم صحت كم ناديت كم بينت به قبل الوجود
وين آل عبدالله وهمدان القواسم والعمود
وين القعيطي وين يافع لي يطرق عا لربود
وين التميمي والمناهل وين بن عبد الودود
وين الجعيدي وين كنده لي تعزوا بن كنود
وين باصره وبن صالح محمد بو عمود
هم حضروا البيعة وهم وقعوا على البيعة شهود
قده أحسن المسراح والمسكن يقع في أرض الزيود
ابن الإمام العادل المنصف على رغم الحسود
عليه صلى الله دائم حل حنات الرعود
هذه القصيدة مؤرخة في ثلاثينيات القرن العشرين، وقد نظمها الشاعر رفضًا للمعاهدة البريطانية مع السلطنة القعيطية والأبيات الأخيرة منها تختصر رسالة القصيدة كلها: ألم حاضر وحيرة في المستقبل، ونداء للنجاة إلى معقل العدل الحقيقي، إما في أرض الزيدية بحثًا عن حق مسلوب، أو في مكة تحت مظلة فيصل بن الحاكم العدل عبدالعزيز صاحب السيرة العطرة.