نجلاء العتيبي
في المساء الذي تخفت فيه الأصوات، وتتوهج أضواء المرافئ كأنها تُنصت لنبض القلوب أستعيد نغمةً ظلت حيَّة في الذاكرة: «خليجنا واحد.. وشعبنا واحد».
لم تكن تلك الجملة زينةً لنشيد؛.. بل هي بصمة في وجدان كلِّ مَن انتمى لهذا المكان، نُقشت في الروح قبل أن تُردِّدها الشفاه، هنا على أرضٍ تعرف ملامح أهلها مهما تباعدت المسافات، تتقاطع اللهجات دون أن تتنافر، وتتعانق الأيادي مهما اختلفت المسارات.
الخليج ليس موقعًا جغرافيًّا فحسب، إنه شعورٌ يسكن الأعماق، لا يُحَدُّ بحدودٍ، ولا يضيع في الزحام، هواؤه مُشبَع بدفء الانتماء، وترابه يختزن صدى الخُطى المتجهة نحو الوحدة.
في أحد المساءات استمعت إلى شيخٍ من أبناء الصحراء وعُشَّاقها يُحدِّث أبناءه عن زمنٍ، اللقاء فيه يتمُّ دون موعد، القلوب تسبق الأسماء، قال بثقةٍ لا تحتاج إلى شرح: «هذولا منَّا وفينا»، لم يكن يعني عشيرته فقط، بل كلَّ مَن تقاسمه اللسان، والتقاليد، والمروءة.
الخليج لا يُقاس بمساحاته «بما يسكنه من وفاء».
هنا، تُوزن القلوب بثقلها في العطاء، وتُعرف الأوطان بمواقف أهلها، وإن غابت شمسٌ في ناحيةٍ أشرقت في أخرى بنورها وأمانها، من الرياض إلى أبوظبي، ومن الكويت إلى الدوحة، ومن المنامة إلى مسقط، طريقٌ من الضوء لا يخفُتُ، بين هذه الدول العظيمة حبالٌ من التراحم لا تحتاج إلى توقيعٍ تكفي فيها النية الصافية والكلمة الصادقة الكريمة.
حين تعلو الأغنيات تُرفع الرايات معًا دون ترتيب أو تمييز، فكل واحدة منها تحمل لون القلب الواحد، في فناء المدارس تمتزجُ النبرات بلا اصطناع، في الأسواق تتقاطع الضحكات بلا حواجز، وفي المساجد تتوحَّد الدعوات في رجاء واحد.
الوجوه مألوفة كأنها تعرف بعضها قبل أن تلتقي، الخليجي يولد ومعه إدراكٌ خفيٌّ بأن الآخر ليس غريبًا؛ إنه امتداد له لا يحتاج إلى تعريف، فالبصيرة تسبق الكلمات، تلك الأغنية الجميلة لم تكن مجرد نغمةٍ تُعزَف، بل هي عهدٌ يتجدَّد، ورسالة لا تبلى، كل مَن ردَّدها أحسَّ أنه جزءٌ من نسيجٍ واحدٍ من وطنٍ كبيرٍ يُعانق بكرم، ويحتوي بحنانٍ.
الذاكرة مزدحمة بمواقف لا تُنسَى: أطباء لبّوا النداء، معلمون تنقَّلوا بلا حدود، فنانون صنعوا الجمال من أجل الجميع، ومبادرات حملت الخير بلا انتظار مقابل.
وحين يُذكَر الخليج لا يُذكر بوصفه منطقةً تسكنها الجغرافيا، لكن بفضاءٍ يسكن في الأرواح قبل الخرائط، هو الحكاية التي تُروَى في المجالس، والملامح التي تراها في الوجوه، والحنين الذي لا يغيب حتى في الغياب.
في الأعياد تتشابه الزينة، وتعلو التكبيرات من المساجد نفسها، ويتبادل الأطفال الفرح ذاته، كأنهم ينتمون لبيتٍ واحدٍ بأبوابٍ متعددةٍ، وفي الحزن يتسابق الناس للمواساة بلا انتظار دعوةٍ أو نداءٍ.
العادات التي تنتقل من الأجداد ليست مجرد تقاليد، بل هي خيوط ذهبية تنسج ثوب الهوية، وفي الأعراس تتقارب الأهازيج وتتلاقى الخطوات فتشعر وكأن الأرض كلَّها ترقص من الفرح المشترك.
حتى في الحكايات الشعبية تجد الشبه العميق: فارسٌ يبحث عن مجد، وفتاةٌ تحمل الحكمة، ومدينة تنتظر المطر، تشابه لا يولد من فراغٍ، بل من جذور ممتدَّة تحت الأرض تربط كل شيء ببعضه دون أن تُرى. الخليج ليس ما نراه فقط، هو ما نؤمن به، ما نُربِّي أبناءنا عليه، وما نكتبه في ضمائرنا قبل كتب التاريخ.
وما دام في القلب نغمة تُردَّد، وفي الروح صدًى لا يخفت؛ فإن هذا الكيان سيَبْقى.. كأنشودة لا تنتهي، ووطنٍ لا يُشبه سواه.
ضــوء
«مصيرنا واحد
وشعبنا واحد
يعيش يعيش
فليعيش،
الله أكبر يا خليج ضمنا
الله أكبر
الله أكبر يا خليج ضمنا».
-الشاعر الكويتي عبد اللطيف البناي-